ثورة هادئة: الجيش التونسى بعد بن على
العالم يفكر
آخر تحديث:
الأحد 28 فبراير 2016 - 11:35 م
بتوقيت القاهرة
نشر مركز كارنيغى للشرق الأوسط، دراسة لشارل غريوال؛ طالب الدكتوراه فى جامعة برينستون، يسعى فيها لترقية البحث حول القوات المسلحة فى الدول العربية وتحديات مرحلة الانتقال الديمقراطى. يحاول غريوال فى تلك الدراسة التعرف على تأثير حدوث الثورة التونسية على إعادة ترتيب العلاقات المدنية – العسكرية، وتأثير ذلك على الجيش وعلى إعادة التوازن للأجهزة الأمنية. خاصة بعد أن استمرت سيطرة الحبيب بورقيبة وبن على، على الجيش لسنوات طويلة، عانى فيها ضباط الجيش من اللامساواة والتهميش وضعف فى القدرات.
تاريخ من التهميش
بدأ غريوال تحليله بأن الجيش فى تونس كان ضعيفا من الناحية السياسية والعسكرية، فقد أسسه بورقيبة فى عام 1956 وأبقاه صغيرا فى حجمه، وكان يخصص له القليل من الموارد وذلك تفضيلا لضمان الأمن الداخلى فى تونس عن الحرب، وحتى يضمن بورقيبة أيضا عدم الانقلاب عليه. ولكن بعد اندلاع إضرابات متفرقة منذ عام 1978 حتى 1984 والتى لم تتمكن من إخمادها قوات الشرطة والحرس الوطنى، أعاد بورقيبة النظر فى ضرورة تقوية القوات المسلحة، وتضاعف الإنفاق العسكرى فى تلك الفترة أربع مرات، ولكن تحقق فى النهاية ما كان يخشاه حيث اضطلع ضباط الجيش بدور سياسى أكبر انتهى بقيام بن على بخلع بورقيبة فى 1987.
الجيش فى عهد بن على
أشار غريوال، إلى أن صعود أحد ضباط الجيش إلى منصب الرئاسة زاد الآمال بين الضباط؛ فشعروا أن دورهم قد حان أخيرا. وبدأ كبار الضباط بشغل المناصب المعروفة تقليديا بأنها مدنية. الأغلبية فى مجلس الأمن القومى كانت لضباط الجيش فى أواخر الثمانينيات، وكان لهم رأى مهيمن فى السياسة. ومع ذلك، لم تمر هذه التحركات من دون أن تلاحظها الأطراف المؤسسية المنافسة للجيش: الحزب الحاكم والشرطة. ونظرا إلى شعور هؤلاء المنافسين بأنهم مهددون بسبب صعود الجيش، فقد رتبوا خطة للعب على وتر جنون العظمة لدى بن على، وإضعاف الجيش والطرف المعارض الأكثر تهديدا لهم، حركة النهضة الإسلامية، بضربة واحدة. وتمكنوا من هز ثقة بن على فى الجيش، فأهمل بن على القوات المسلحة ماديا، وأغدق على وزارة الداخلية أسلحة جديدة ورواتب أعلى بدلا من الجيش. وأصبحت تونس دولة بوليسية.
فى الوقت نفسه عزز «بن على» سيطرته على الجيش، وانتقل نحو نظام حكم شخصى للمؤسسة العسكرية. واختص نفسه بمعظم القرارات الخاصة بالجيش ولم يكن يدعو مجلس الأمن القومى للاجتماع، إلا بعد حدوث كوارث طبيعية نادرة.
صعود رشيد عمار
جاءت الإشاعة التى تقول إن الجنرال رشيد عمار رفض أوامر إطلاق النار على المتظاهرين، لتجعله يحظى بشعبية كبيرة لدى الشعب التونسى. فيقول غريوال، إن هذه السمعة، إلى جانب الدور الواضح الذى لعبه الجيش لضمان الأمن بعد الثورة مباشرة، جعلت منه الأقوى والأقدر على تسيير الأمور. ومع ذلك، لم تكن لديه حاجة لتولى منصب سياسى رسمى: فقد أصبح رشيد عمار عمليا مركز القوة، وكان الجميع يرجعون له وقت المشكلات الصعبة.
فقد أحدثت الفترة الانتقالية وفقا لغريوال تغييرات فى الجيش كذلك. كان أهم تلك التغييرات إحياء منصب رئيس أركان القوات المسلحة الثلاث فى أبريل 2011، حيث تولى عمار هذا المنصب بالإضافة إلى رئاسة القوات البرية. ومع ذلك، سرعان ما تم الاعتراض على هذا التقليد من السيطرة الشخصية على الشئون العسكرية من جانب أول حكومة تونسية منتخبة ديمقراطيا.
من السيطرة الشخصية إلى السيطرة المؤسسية
سهل النظام الرئاسى السابق سيطرة بن على الشخصية على الجيش، حيث منح الدستور الرئيس المسئولية الحصرية عن الأمور العسكرية. ومع ذلك، أصبحت إدارة الجيش فى الدستور المؤقت الذى أصدرته حكومة الترويكا فى بداية فترة ولايتها فى ديسمبر 2011، مسئولية مشتركة بين الرئيس ورئيس الوزراء.
التقسيم الفضفاض للمسئوليات، إلى جانب وجود ترتيبات مؤسسية دقيقة يكون فيها وزير الدفاع مواليا لرئيس الوزراء وليس بالضرورة للقائد العام، كان كما ذكر غريوال مصدرا للتوتر بين المرزوقى والجبالى. التنافس بين الجبالى والمرزوقى دفع كل مسئول تنفيذى، عن غير قصد، إلى تعيين مستشارين عسكريين ومجالس استشارية لمساعدتهم على إدارة الجيش، وإضفاء الطابع المؤسسى على القنوات اللامركزية لتنظيم القوات المسلحة.
فى أعقاب تشكيل الجبالى مجلس الأمن، وقيام المرزوقى بتعيين مستشار عسكرى للرئيس وإحياء مجلس الأمن القومى، أصبحت عملية اتخاذ القرار فى المسائل العسكرية مشتتة أكثر فأكثر، وأصبحت إدارة الجيش أكثر لامركزية بعد أن أصبحت مسئولية مشتركة بين أطراف متعددة، الأمر الذى حولها، كما قال عميد متقاعد «من حكم شخصى إلى حكم مؤسسى».
الوقاية من الانقلاب عبر التمييز الإيجابى
النظام الجديد لإدارة الجيش، منح كبار الضباط القدرة على المساهمة المباشرة والمنتظمة فى سياسة الأمن القومى. غير أن كبار الجنرالات وحكومة الترويكا لم يكونوا متفقين دائما، الأمر الذى دفع المرزوقى إلى الخوف من احتمال حدوث انقلاب. وتصاعدت حدة هذه الخلافات بعد اغتيال السياسى اليسارى شكرى بلعيد فى فبراير 2013. وبالتالى عمل المرزوقى على إقصاء عمار من منصبه، وإحالته للتقاعد بعد حادثة مقتل جنديين وإصابة آخرين فى انفجار قنبلة على الطريق، فاختار عمار الاستقالة فى 27 يونيو لتجنب إعطاء انطباع بأنه قد أقيل من منصبه.
ومع ذلك، لم يتبدد الخوف من حدوث انقلاب باستقالة عمار، بل كانت الاستقالة مجرد بداية للخوف. فبعد أسبوع واحد، أطاح الجيش المصرى بالرئيس محمد مرسى المدعوم من جماعة الإخوان المسلمين، الأمر الذى شجع أعضاء المعارضة فى تونس على الاعتقاد بأن جيشهم يمكن أن يفعل الشىء نفسه.
وأضاف الباحث أنه خوفا من تكرار السيناريو المصرى، استمرت حكومة الترويكا، والمرزوقى على وجه الخصوص، فى اتخاذ سلسلة من التدابير الرامية إلى منع حدوث انقلاب. كاختيار بديل لرشيد عمار رئيسا لأركان القوات البرية. كما أجرى المرزوقى مزيدا من التغييرات فى قيادة الجيش لضمان ولائه. وتم إدخال ضباط تعود أصولهم إلى خارج تونس العاصمة ومنطقة الساحل، ومن خارج شبكات بن على وعمار الشخصية.
مع ذلك، وفى حين أوحت تعيينات المرزوقى بنهاية المحسوبية لصالح منطقة الساحل، إلا أنها وفقا لغريوال لم تكن تشير بالضرورة إلى أن التعيينات أصبحت أكثر حرفية أو جدارة. واستمر اختيار القادة الجدد، بمعنى ما، بناء على ولاءاتهم السياسية. بل وتبنى المرزوقى وحكومة الترويكا استراتيجيتين أخريتين لتجنب السيناريو المصرى. أولا، ترك منصب رئيس أركان القوات المسلحة شاغرا بعد استقالة رشيد عمار. ثانيا، سعت حكومة الترويكا إلى تخفيف الاحتكاك مع الجيش من خلال إجراء تغييرات فى السياسات العامة. وقد ادعى الدايمى، أمين عام حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، أن هذه التغييرات «ضمنت الكفاءة المهنية» للقوات المسلحة التونسية، وضمنت استمرارها فى الدفاع عن مؤسسات الدولة فى مواجهة دعوات ضمنية للقيام بانقلاب. وعندما أدركت المعارضة أن الجيش لن يتدخل، وأن السيناريو المصرى ليس واردا، انتقلت إلى مرحلة جديدة، وتحولت بدل ذلك إلى المفاوضات بوساطة المجتمع المدنى.
تسليح الجيش
مع انحسار الأزمة السياسية، حول المرزوقى وحكومة الترويكا انتباههم مرة أخرى إلى قضية الأمن القومى. فقد أجبر تزايد التهديد الإرهابى الحكومة على تعزيز قدرات الجيش. ويوحى تنامى القوة المادية والسياسية للجيش إلى البدء بتقويم الترتيبات المؤسسية السابقة والتى كانت تميل بشدة لصالح الشرطة. فبعد أن أصبح الجنرالات الموثوقون فى سدة الحكم، رأت حكومة الترويكا أنها باتت فى وضع مريح يمكنها من تزويد القوات المسلحة بأسلحة ومعدات جديدة. لو تأملنا أول ميزانية للجيش، لوجدنا أن ميزانية وزارة الدفاع نمت بسرعة أكثر من أى وزارة أخرى من العام 2011 إلى العام 2016، وزادت بمعدل 21 فى المائة سنويا. أما الرئيس السبسى فقد زودها بميزانية أولية بقيمة مليون دينار تونسى فى مشروع ميزانية العام 2016.
الضباط فى المجتمع المدنى
ربما كان دخول الضباط المتقاعدين فى المجتمع المدنى النشط فى تونس، يمثل أشد قطيعة مع عهد بن على. وقد قام الضباط المتقاعدون بدور فعال فى تثقيف الجمهور والسياسيين حول الجيش واحتياجاته، ووفروا للقوات المسلحة جماعة ضغط جديدة تسعى لتعزيز مصالحه فى حقبة ديمقراطية.
حدث ذلك، جزئيا، من خلال ضباط متقاعدين استفادوا من الحرية النقابية الجديدة فى تكوين منظمات المجتمع المدنى. وقد لعب الضباط المتقاعدون دورا هاما فى تطوير وتشكيل النقاش العام بشأن القوات المسلحة، سواء من خلال هذه المنظمات أو كأفراد؛ خاصة بأفكارهم ومقترحاتهم الخاصة بالقوات المسلحة وتطويرها أثناء صياغة دستور ما بعد الثورة فى تونس.
لاتزال هذه المنظمات التى تضم الضباط المتقاعدين تحظى بالثقة ولديها اتصالات مع وزارة الدفاع، ويمكنها أن تعمل فى نهاية المطاف كمراكز أبحاث حكومية حول قضايا الأمن فى حين ينشغل المسئولون حتى هذه اللحظة بإدارة الأمور اليومية الملحة».
***
وفى النهاية يؤكد الباحث أن الإطاحة بالرئيس بن على فى العام 2011 أطلقت عملية إعادة هيكلة نظام السياسى التونسى بعيدا عن الدولة البوليسية. إذ بدأ الجيش، الذى يعانى تاريخيا من نقص التمويل والتجهيز، يشهد تحسن وضعه. ويشير تعزيز قوة ونفوذ الجيش فى السنوات الخمس الماضية، إلى أن عملية تصحيح اختلال التوازن التاريخى بين الجيش والشرطة قد بدأت.
ويختتم الدراسة بأن الرئيس الباجى قائد السبسى يدعم هذا الاتجاه، على الرغم من علاقاته السابقة مع بورقيبة وبن على. فقد يستسلم لهذه النقابات، بيد أن بإمكانه أن يستخدم القوات المسلحة المدعمة لموازنة وزارة الداخلية وحتى الضغط على الشرطة لبدء إصلاحات داخلية. إضافة إلى ذلك قد يعطى السبسى الأولوية لبدء إصلاحات تهدف إلى تحقيق أقصى قدر من الفعالية للقوات المسلحة. فمن شأن تبنى استراتيجية دفاعية شاملة، يتم وضعها بالتشاور مع المجتمع المدنى والبرلمان والشركاء الدوليين، أن تساعد على توجيه القرارات الخاصة بالميزانية والمشتريات.