المثقفون المصريون: المتحولون والثابتون على المبدأ
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 28 فبراير 2021 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
تعرف المسيرة الفكرية للمثقفين المصريين نمطين: أحدهما ينتهى به الأمر بعد أن يتقدم به العمر فيعود عن بعض المواقف التى كان يتخذها فى بداية مسيرته، وثانيهما يظل متمسكا بهذه المواقف الأولية لا يحيد عنها. وتحتل قضية العلمانية، ليس بمعنى رفض الدين كما يفسرها البعض، ولكن باعتبارها تدعو إلى الفصل بين الدين والدولة، القضية الأساسية التى يدور حولها التحول أو الثبات. والشائع هو انتقال المثقف المصرى من تجاهل الدين كمحور لكتاباته فى بدايات نشاطه الفكرى، ليس إلى الاهتمام به كموضوع للدراسة أو البحث، ولكن إلى الدعوة له كأساس لمشروع النهضة الذى يدعو إليه. وعلى الجانب الآخر شهدت حياتنا الفكرية هؤلاء المثقفين الذين لا يغادرون مواقعهم الأولى، قد تتوسع اهتماماتهم، وقد يتناولون قضايا جديدة، ولكن السمات الأولى لمواقفهم النظرية تظل ثابتة.
النمط الأول معروف، أحد نجومه هو المرحوم الدكتور طه حسين، والذى هاجمه الأزهر، وتعرض للتحقيق من جانب النيابة العامة بسبب كتابه فى الشعر الجاهلى والذى صدر فى سنة 1927، وهو الذى كان يعتبر مصر شريكا فى حضارة متوسطية هى الأقرب إلى روحها، كما اقترح تسهيل تعلم اللغة العربية بكتابتها بحروف لاتينية، هو نفسه الذى كتب منذ أربعينيات القرن الماضى كتبا تمجد الإسلام مثل: على هامش السيرة والشيخان، والوعد الحق، ومرآة الإسلام والفتنة الكبرى مصالحة منه كما بدا مع الدين الإسلامى، ودون أن يطبق قواعد المنهج الذى كان قد دعا إليه فى كتابه السابق المطلع على هذه الدراسات للتاريخ الإسلامى.
مثل آخر على هذا النمط هو سيد قطب العضو البارز فى جماعة أبوللو الشعرية مع محمود عباس العقاد، والمتعاون مع أمانة العمال فى هيئة التحرير التى أنشأها ضباط يوليو، والذى ثار على كل من النظامين شبه الليبرالى الذى حكم مصر قبل 1952 والنظام العسكرى الذى خلفه، ودعا فى مؤلفاته الثلاثة فى الخمسينيات: علامات فى الطريق، هذا الدين، والمستقبل لهذا الدين، إلى هجرة الطليعة الإسلامية من هذا المجتمع الذى يحكم بغير شرع الله ثم العودة له لتحريره من حكم البشر. وانضم إلى هذا الفريق المرحوم الدكتور محمد عمارة الذى عرف تجربة المعتقل مع الشيوعيين فى خمسينيات القرن الماضى وتحول منذ السبعينيات وحتى وفاته ليكون من أعلام الحركة الإسلامية فى مصر.
النمط الآخر من أعلامه المرحوم الدكتور سعيد النجار الذى ظل متمسكا بالرأسمالية والديمقراطية كطريق خلاص مصر من أزماتها، ومنهم أيضا كل من المرحومين الدكتور فؤاد مرسى والدكتور إسماعيل صبرى عبدالله اللذين ظلا يدافعان عن الاشتراكية حتى غادرا عالمنا، حتى وإن كان الأول قد سلم بقدرة الرأسمالية على تجديد نفسها، واتسعت رؤية الثانى لتضم بعدا عروبيا لمشروعه للنهضة واقترب من فكر ما كان يعرف فى سبعينيات القرن الماضى بالشيوعية الأوروبية.
دارت فى ذهنى هذه الأفكار وأنا فى طريقى بعد صلاة الجمعة الماضية لتقديم العزاء لأسرة المرحوم الأستاذ طارق البشرى الذى غادر عالمنا منذ أيام ثلاثة، فهو أيضا ينتمى إلى النمط الأول، وذكرت مفكرا مصريا آخر عرفته عن قرب هو المرحوم عادل حسين. وأتيح لى كذلك أن أعرف من النموذج الثانى كلا من الدكتور سعيد النجار والدكتور إسماعيل صبرى عبدالله. تأملت مسيرة الأربع ومسيرة آخرين، وتساءلت عن أسباب التحول والثبات، وما إذا كانت هناك أرضية مشتركة بين كل هؤلاء المفكرين تصلح لكى نبنى عليها مشروعا صالحا لنهضتنا إذا كان ما زال من الممكن أن نستأنف مسيرة نهضة مأمولة انقطعت قبل أن تبلغ مرادها.
المتحولون
تعود معرفتى بالحصيلة الفكرية للأستاذ طارق البشرى إلى ستينيات القرن الماضى من خلال قراءة ما كان ينشره فى مجلة الطليعة التى كانت منبرا علنيا لليسار الماركسى فى مصر ويترأس تحريرها المرحوم لطفى الخولى. دارت مقالات البشرى حول جوانب مختلفة من التاريخ السياسى لمصر فى النصف الأول من القرن العشرين، ثم التهمت كتابه عن الحركة السياسية فى مصر خلال الفترة 1945ــ1952 الذى أعجبت به كثيرا، لم يكن تحليله ماركسيا، ولكنه كان قراءة جادة لتاريخ مصر استفدت منها كثيرا. نشر هذه المقالات فى الطليعة لم يكن قرارا اتخذه الأستاذ البشرى دون معرفة بهوية مجلس تحريرها هو والعضو فى مجلس الدولة كان بكل تأكيد يعرف ذلك، هو فى تلك الفترة لم يكن على عداء مع الماركسيين، ولم يكونوا هم يرون فيما يكتب دعوة لحركة سياسية هم يناصبونها العداء. ولكن الكتابات التالية له منذ الثمانينيات جعلت من الإسلام محورا رئيسيا لتأملاته مقترنا بالدعوة إلى أن يكون التراث الإسلامى العنصر الرئيسى فى مشروع النهضة الذى يدعو إليه. بدايات التحول كانت واضحة فى كتابه «المسلمون والأقباط فى إطار الجامعة الوطنية»، وطرح أفكاره فى مشروع النهضة المقترح فى كتابه «نحو تيار أساسى للأمة». كما انتقد فى كتاباته عن تاريخ المؤسسات القضائية فى مصر محاولة التوفيق بين الفكر القانونى الأوروبى والتراث الإسلامى التى قام بها العلامة عبدالرزاق السنهورى فى إشرافه على صياغة القانون المدنى المصرى، ورأى فيها نقلا للفكر الأوروبى أكثر مما كانت توفيقا بينه والشريعة الإسلامية.
علم آخر بين المتحولين هو المرحوم الأستاذ عادل حسين، والذى كانت بداية مسيرته الفكرية هى فى إطار الحركة الشيوعية المصرية شابا صغيرا. كانت قضية الموقف من نظام الضباط الأحرار قضية خلافية بين التنظيمات الشيوعية فى خمسينيات القرن الماضى.أعرف أن الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى (حدتو) كانت تتخذ موقفا متعاطفا من نظام يوليو بينما اتخذ فصيل آخر موقفا معاديا. سألت المرحوم عادل عما كان موقفه فى هذا الخلاف، أجابنى بأنه اتخذ الموقف الأكثر تطرفا وهو أن نظام يوليو كان فى رأيه فى ذلك الوقت نظاما فاشيا. هو تحول عن هذا الموقف فى سبعينيات القرن الماضى وخصوصا بعد أن نشر كتابه من جزئين عن «الاقتصاد المصرى.. من الاستقلال إلى التبعية «متبنيا موقفا ناصريا يؤكد على ضرورة القطاع العام لدفع مشروع التنمية المستقلة، ثم انتقل فى الثمانينيات إلى تبنى رؤية الإسلام السياسى، وأصبح أمينا عاما لحزب العمل الذى صار واجهة للإخوان المسلمين وحليفا لهم فى انتخابات مجلس الشعب فى سنة 1987.
والملاحظ فى حالة كل من البشرى وحسين وكذلك محمد عمارة أن التحول إلى تبنى مقولات الإسلام السياسى تزامن على الصعيد الداخلى مع الصعوبات التى واجهتها سياسات التحول إلى الرأسمالية، المسماة بالانفتاح الاقتصادى استهلاكيا كان أو إنتاجيا، ومع صعود الحركة الإسلامية فى مصر وفى أعقاب نجاح الثورة الإسلامية فى إيران. ولم تكن بذور هذا التحول كامنة فى كتاباتهم أو مواقفهم السابقة، أى إن هذا التحول لم يكن تطورا لمواقف سابقة، وإنما كان انعكاسا أو رد فعل لما كان يجرى فى مصر وفى الشرق الأوسط. ويبدو هذا التحول مع ذلك وليد قناعة عميقة لدى البشرى، وعدولا عن رؤيته الفكرية السابقة التى كانت لا تولى الدين أو البعد الثقافى فى رأيه أهميته المستحقة، بينما استمرت قناعة عادل حسين بأهمية القطاع العام وبخطر الاستسلام للرأسمالية العالمية، وقد صرح لى بأن الخطاب الإسلامى هو أكثر فعالية فى تعبئة المواطنين لخدمة مشروع نهضة قد لا يختلف فى أبعاده الاقتصادية عما كان يدعو له سواء فى مرحلته الشيوعية أو الناصرية.
الثابتون على المبدأ
يضم الثابتون على المبدأ مفكرين من تيارات مختلفة، فيهم الليبراليون وفيهم الماركسيون، بعضهم لم يتحرك ربما قيد أنملة عن مواقفه السابقة، والبعض الآخر أضاف إليها ولكن أسسها أو لبناتها الأساسية ظلت واحدة. المرحوم الدكتور سعيد النجار ظل على إيمانه بالرأسمالية وبالديمقراطية منذ عرفته أستاذا فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى مقتبل ستينيات القرن العشرين وحتى سنواته الأخيرة، بعد أن عاد إلى مصر فى ختام فترة طويلة فى منظمات دولية شملت الأمم المتحدة وكلا من البنك الدولى وصندوق النقد الدولى اللذين مثل فيهما الدول العربية. فى الستينيات كان الذين يعرفون بمبادئه الليبرالية هم طلبته فى جامعة القاهرة الذين كنت واحدا منهم، ولكن أصبح فى مقدوره نشر أفكاره فى مصر من خلال جمعية النداء الجديد التى دعت للتحول الديمقراطى فى مصر منذ نشأتها فى سنة 1992 وتولى الدكتور النجار رئاستها، وأصدرت الجمعية العديد من كتاباته التى بشر فيها بما يمكن أن يحققه الانتقال إلى الليبرالية فى مصر على جميع الأصعدة.
الثابتون على المبدأ يشملون كذلك كلا من المرحومين الدكتور فؤاد مرسى وإسماعيل صبرى عبدالله وكانا من قادة الحركة الشيوعية فى مصر اللذين تصالحا مع نظام يوليو، وتولى كل منهما مناصب وزارية فى ظل الرئيس الأسبق أنور السادات. لم يتخل أى منهما عن إيمانه بالاشتراكية رغم أن الحكومة المصرية بعد رحيل عبدالناصر قد سعت إلى السير على طريق الرأسمالية، ورغم أن الدكتور إسماعيل صبرى قد عاصر سقوط النظم الاشتراكية فى أوروبا الشرقية. الدكتور فؤاد مرسى أدرك أن سقوط الرأسمالية ليس قريبا، ولكن ذلك لم يستدع من وجهة نظره التنكر للاشتراكية كالطريق الضرورى لتحرر البشر، ولكن لم يعرف عنه تبنى نموذج اشتراكى يختلف عن السمات الرئيسية للنظام السوفييتى، أما الدكتور إسماعيل فقد أصبح ميالا إلى نموذج يجمع بين الاشتراكية والديمقراطية فى صيغتها الغربية متأثرا فى هذا الصدد بما عرفه عن الشيوعية الأوروبية التى كان يدعو لها عدد من الأحزاب الشيوعية فى أوروبا الغربية وخصوصا الأحزاب الشيوعية فى إيطاليا وفرنسا وإسبانيا. كما أضاف البعد العروبى لمشروع النهضة الذى يدعو إليه. وكان للأحزاب الشيوعية موقف متحفظ من مشروعات الوحدة العربية فى خمسينيات القرن الماضى، واعترضت على الوحدة الفورية بين مصر وسوريا ودعت إلى اتحاد فيدرالى بدلا من الوحدة الاندماجية. وقد فسر لى المرحوم عادل حسين أن الدعوة لاتحاد فيدرالى كانت صيغة مقنعة لرفض مشروع الوحدة المصرية السورية.
هل من أرضية مشتركة؟
ما الذى يمكن أن نخرج به من هذا الاستعراض المختصر للمسيرة الفكرية لهؤلاء الأقطاب للتيارات الرئيسية للفكر المصرى خلال القرن السابق. ما هى دلالة التحولات؟ وهل يمثل الثبات على نفس المبادئ جمودا فى الفكر وعجزا عن ملاحقة التطورات الجارية على أرض الواقع؟
التحولات الفكرية كانت صدى لصعود تيارات سياسية على الصعيد الوطنى وتغير فى علاقات القوى على الصعيد الإقليمى مع اتساع قاعدة الحركة الإسلامية فى صفوف الطبقة المتوسطة المهنية فى مصر والانقلاب الذى أحدثه نجاح الثورة الإسلامية فى إيران فى تحدى السيطرة الغربية فى الشرق الأوسط، والذين ثبتوا على مواقفهم لم يروا فى التحول الرأسمالى فى مصر فى ظل غياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية الطريق المناسب لتحقيق النهضة.
أقطاب هذه المواقف لم يترددوا فى الدخول فى حوار مع مخالفيهم فى الرأى، ولم يكونوا من الرافضين لكل أفكارهم. هل يمكن أن نبنى على هذه المواقف ما يمكن أن يمثل أرضية مشتركة تكون مقدمة لتطوير مشروع للنهضة. مثل هذا المشروع يحترم التراث الثقافى بما فيه من عقائد، ويأخذ الروابط التاريخية بين الشعوب العربية فى الاعتبار، يفتح المجال لنمو رأسمالية عربية منتجة فى إطار تقوده الدولة ويحترم حقوق الإنسان فى الحرية والعدالة الاجتماعية؟ هل يمكن أن تكون هذه الحصيلة مقدمة لنقاش مثمر أم يبقى أنصار هذه المواقف معسكرات منفصلة ومعادية؟ ونبقى نحن على هامش نظام عالمى يتلاعب بنا جميعا، شعوبا ودولا؟