غياب الأيديولوجية القومية.. وكوارث الحاضر
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 28 فبراير 2024 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
لنقارن بين زخم الدعم الشعبى العربى فى الخمسينيات من القرن الماضى لكل شعب عربى فى أى قطر عربى يواجه الاستعمار، مثل مواجهته فى مصر أو فلسطين أو الجزائر، وبالتالى الضغط على أنظمة الحكم لتتبع خطاه حتى ولو كانت مرغمة على ذلك.. لنقارن تلك المشاهد التضامنية الرائعة، باسم الأخوة والهوية العروبية الواحدة، بمشاهد حراكات الشعوب العربية المترددة الخائفة التائهة، وبالتالى مواقف بعض أنظمة حكمها تجاه حملة الإبادة التى ترتكبها القوى الصهيونية ومناصريها من الاستعماريين فى فلسطين المحتلة، وعلى الأخص فى غزّة المحاصرة المدمرة الملطخة بدماء شهدائها وأطفالها ونسائها فى كل مكان.
ما الذى كان يحرك ذلك الزخم الرائع فى الخمسينيات، وما الذى أوصل إلى مشاهد الضعف والذل التى تميز أيامنا؟ الأسباب كثيرة، ولكن من أهمها وأكثرها تألقا هو تواجد الأيديولوجية القومية العروبية الملتزمة المناضلة وترسخها فى الجسد الشعبى العربى فى الخمسينيات مقارنة بتراجعها والعبث بها الذى يميز الحاضر.
من هنا الأهمية الكبرى لموضوع الأيديولوجية الذى قدمنا له فى المقالتين السابقتين، وسنستمر فى إبراز كل جوانبه كجزء من الثقافة السياسية الضرورية لشابات وشباب هذه الأمة. لن تتحرك الحياة السياسية العربية الآسنة التائهة، التى تسعى الصهيونية ويسعى الاستعمار لتشويه ذاكرتها التاريخية وشل تواجدها فى صفوف الجماهير الشعبية وفى مؤسسات المجتمعات العربية المدنية، لن تتحرك إلا إذا حسمنا بصورة قاطعة موضوع الأيديولوجية فى الحياة السياسية العربية لتكون هى المجيش وهى المفعل وهى أحد أهم طرق الصعود إلى المستقبل العربى.
إذن، لنواصل نقاش الموضوع:
سواء فى المجتمعات الأخرى أم فى بلاد العرب تركز نقد، ومن ثم رفض، فكرة الرجوع إلى إحياء الأيديولوجيات الكبرى الشهيرة، تركز على بعض ممارسات تلك الأيديولوجيات الخاطئة وممارسيها أكثر مما تركز على مبدأ تواجدها الفكرى أو على مبدأ أهمية لعب دورها الضرورى فى الحياة السياسية لتلك المجتمعات.
ويدرك أغلب النقاد أن التفتيت والتسطيح والتعليب الفكرى والحياتى والسلوكى الذى ران على هذا العالم من خلال الثقافة الجماهيرية النيوليبرالية الرأسمالية العولمية السطحية لا يمكن مواجهته إلا بأيديولوجيات متنوعة تحاورية دائمة التجدد، وبراجماتية غير متزمتة أو منغلقة على ذاتها.
إن أشد ما يؤخذ على طرح وممارسة الأيديولوجيات فى السابق هى أنها كانت لا تحاور الآخر الأيديولوجى وإنما تسعى إلى تهميشه أو استئصاله. كانت تلك منهجية تفتقد للعقلانية المتزنة وللروح الديموقراطية، وتؤدى بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى تطويع الجماهير والتلاعب بعقول شبابها وشاباتها على الأخص.
وباختصار تمثلت الاعتراضات على تواجد الأيديولوجيات تحت ثلاثة عناوين كبرى: أولا، افتراضاتها أنها وحدها تعرف الطريق إلى بناء المجتمعات الإنسانية المتحضرة، وأنها وحدها لديها القيادات القادرة على إدارة وقيادة وصون التغيرات السياسية والاجتماعية المطلوبة، سواء فى شكل الحزب القائد أو الانقلاب العسكرى المنجى أو غيرهما، وثانيا، فشلها فى الاعتراف بأهمية وضرورة التنوع والتعدد الأيديولوجى. وثالثا، الصلات الحميمة فيما بين بعضها وبين قوى التسلط والديكتاتورية الشمولية، من مثل علاقات بعض الليبراليين بالفاشية والنازية فى ألمانيا وإيطاليا، وعلاقات بعض الاشتراكيين والشيوعيين بالستالينية فى روسيا.
فى بلاد العرب، من خمسينيات القرن الماضى وإلى نهاية القرن واجهت الحياة السياسية فى العديد من الأقطار العربية نفس تلك الإشكالات الفكرية والسلوكية والعلائقية المشبوهة فيما بين الأيديولوجيات التى حملها هذا الحزب أو ذاك، أو ادعى هذا النظام بأنه حاميها ومجسّدها أو ذاك، لنكتشف بعد حدوث كوارث عديدة فى الكثير من الأقطار العربية أن أحد أسباب تلك الكوارث هو الفهم أو التعامل الخاطئ لهذه الأيديولوجية أو تلك. ونحن على الأخص معنيون بالدرجة الأولى بالأيديولوجية القومية العربية بشتى صور طرحها ومسمياتها. فهذه الأيديولوجية هى التى كانت بالفعل التى نجحت فى أن تكون جزءا من ضمير ووجدان الملايين فى كل أقطار الوطن العربى وهى التى كانت مرشّحة لأن تنقل الأمة كلها من حال تاريخى متخلف إلى حال متقدم متمدن إنسانى.
ولكن دعونا نؤكد أن المهم ليس ممارسة النقد لما مضى، وهو جزء من التاريخ الذى يجب أن نتعلم منه، وإنما المهم هو الإجابة على السؤال التالى: هل ما زالت أوضاع الأمة العربية، التى تغيرت كثيرا فى السنين الأخيرة، ستحتاج إلى أن تكون الأيديولوجيات جزءا من مسارح أنظمتها السياسية المطلوبة، وعلى الأخص لنجاح النظام الديموقراطى الذى ننشد الانتقال إليه، أم سنحتاج إلى التفتيش عن مسار آخر، غير أيديولوجى، لنسير فيه؟