يوميات رائعة للمستشار عبدالغفار محمد
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
السبت 28 يونيو 2014 - 6:00 ص
بتوقيت القاهرة
فى أواخر السبعينيات وقف المرحوم د/ عبدالحليم مندور أمام باب القضاء العالى يشير لابنه المحامى الشهير/ كامل مندور على رجل مهيب يهم بركوب الأتوبيس العام قائلا له:
«هذا هو المستشار عبدالغفار محمد أشهر قضاة الاستئناف وأمهرهم وأكثرهم حنكة قانونية.. ومن أنظف القضاة يدا».
عجب كامل مندور وهو يرى هذا المستشار بالاستئناف يفعل هذا.. وما أدراك ما هذا الأتوبيس العام وقتها.. دارت الأيام دورتها وأصبح المستشار عبدالغفار رئيسا لأكبر محكمة تحاكم إسلاميين فى تاريخ مصر كله.. إذ إنها حاكمت 2003 من قيادات التيار الإسلامى بكل فصائله التى كانت تنتهج العنف وقتها.
فى أول أيام المحكمة احتك حرس المحكمة بالمحامين.. كان الحرس متوترا جدا لأنه استيقظ قبل الفجر واستمر حتى قرب العصر.. وحدثت مشادة بين الطرفين أدرك المستشار عبدالغفار نهايتها أصلح بين الطرفين.. لكن الشرطة أصرت على القبض على أ/ يوسف صقر ـ الذى كان يسميه العلامة د/ حلمى مراد «أبوالمشاكل» ـ فغضب المستشار غضبا شديدا واستدعى اللواء رئيس الحرس وزجره قائلا: أنا هنا المسئول وحدى عن المحكمة.. والمحامون جزء من المحكمة وإهانتهم تمثل إهانة لها.. ولن يذهب يوسف إلى أى مكان.. وكتب فى محضر الجلسة أمرا للنيابة بالتحقيق فى المشكلة وعرضها عليه.
وبذلك عرف المحامون من أول أيام أنهم أمام قاضٍ له هيبة ومكانه ورجولة.
والمستشار عبدالغفار هو أول قاضٍ فى تاريخ القضاء المصرى يفتح باب المرافعة من جديد بعد إغلاقه.. فقد جاء إليه مجموعة من كبار المحامين فى القضية ومنهم يوسف صقر وشمس الشناوى والمسمارى من نقابة المحامين وقالوا له:
لقد اكتشفنا أن خمسين متهما فى القضية لم يترافع عنهم أحد.. فاستشار عضو اليمين المستشار جمال فؤاد ووافق على فتح المرافعة للدفاع عنهم ولما قابله يوسف صقر بعد تقاعده وعمله بالمحاماة قال له: يا يوسف هؤلاء المتهمون أنا فحصت مواقفهم القانونية واكتشفت من دراستها أنهم غير مدانين ويستحقون البراءة وكتبت حيثيات براءتهم.. ولذلك كنت لا أحتاج لدفاع عنهم.. ورغم ذلك وافقت وقتها على فتح باب المرافعة من جديد حتى أعطى كل ذى حق حقه ولا ألقى الله بظلم أحد.
لقد زرت المستشار عبدالغفار فى بيته بعد خروجى من المعتقل عدة مرات فوجدته قد كف بصره ويعانى من مضاعفات السكر.. ويعيش حياة غاية فى البساطة والتقشف.. رغم خروجه للمعاش وهو يرأس الاستئناف فى مصر كلها بدرجة وزير.. وكان ابنه مهندس معمارى فلم يجد له عملا مناسبا رغم حصوله على الماجستير.. لقد كان زاهدا فى الدنيا ولو أرادها لركعت تحت قدميه ولكنه أبى أن يخضع لها.
لقد تحدث إليه وزير العدل فى أوائل الثمانينيات فتطرق الحديث إلى القضية التى ينظرها فقال له زاجرا: يا معالى الوزير أرجوك لا تتدخل فى عملى.. ثم أغلق السماعة فى وجهه.
وحينما زرته كان معى الشيخ أسامة حافظ: فقال له: يا أسامة أنا لم أظلمك وأعطيتك العشر سنوات لحضورك اجتماع 28/9.. ولو أنك لم تحضره لأخذت براءة.. أنه كان عادلا مع كل المتهمين ولم يظلم أحدا.
ويكفى أنه من أوائل القضاة فى تاريخ مصر الذين استندوا إلى المادة 7 من القانون الذى ينص على تخفيف العقوبة نتيجة للغرض النبيل.. وبسبب ذلك قامت الحكومة فى أوائل التسعينيات بإلغاء هذا النص.
لقد كان المستشار عبدالغفار يحفظ كل مواقف المتهمين فى القضية بالتفصيل الممل.. وكم أحرج محامين كانوا يتحدثون فى دفاعهم عن أشياء غير موجودة فى الأوراق لأنهم لم يذاكروا القضية جيدا.
إننى أهدى هذا النموذج لبعض قضاة اليوم الذى يلغى النقض كل أحكامهم.. أو يكتشف القاضى أنه حكم بالإعدام على حدث صغير دون أن يشعر.. أو على اثنين من المسيحيين فى قضية إسلامية.. أو يحكم حضوريا على متهم غائب دون أن يقرأ القضية أو يدرسها جيدا فيهتم بما يسمى بالردع ويقدمه على العدل.. مع أن مهمة القاضى هى العدل وليصب ذلك فى أى مصب.
والمستشار عبدالغفار لم يكن عادلا فى حكمه فقط.. ولكنه كان مدافعا عن المتهمين الذين حاكمهم.. حيث نص فى حيثياته أنهم تعرضوا لتعذيب بشع ولكن ذلك لم يؤثر فى صحة أقوالهم نتيجة تطابقها وترادفها.. ولكنه نص على إحالة أوراق تعذيب المتهمين إلى النيابة العامة ومعها بلاغ منه كرئيس استئناف للتحقيق فيها ومحاكمة مرتكبيها.. لتتم على يده لأول مرة فى مصر فى نفس العهد محاكمة الضباط الذين عذبوا متهمين.
ومما يؤثر عن المستشار عبدالغفار أيضا أنه علم من المستشار رجاء العربى رئيس النيابة أن وزير الداخلية يريد اعتقال الذين حصلوا على براءة فى القضية.. فإذا به يهاتف الرئيس الأسبق مبارك ويحثه على إنفاذ الحكم وإذا بمبارك يستجيب له ويرفض نصيحة الداخلية.. وهذه كانت من حسنات المستشار ومبارك معا وقد حكاها لى بنفسه.. هؤلاء هم القضاة بحق.