من زمن الرواية إلى زمن القص
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 28 يونيو 2019 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
ما زلتُ أرى أن المشكلة الأكبر فى فوضى الكتابة الحاصلة هى نقص «ثقافة الكتابة»، بل انعدامها بالكلية تقريبًا (فى قطاعات ودور نشر ودوائر قراء لا تعد ولا تحصى!)، خصوصًا فيمن يتوهمون أنهم كتاب وروائيون! وأسارع قبل أن يتهمنى أحد بأننى أصادر على حق البشر فى الكتابة والإبداع، وأوضح أننى أقصد من يبتغون جادين إنتاج كتابة حقيقية، تبحث عن ابتكار أشكالها وتجسد رؤاها للعالم فى إبداعات فنية متميزة؛ أو كانوا من أصحاب الروايات التى تطرح رؤى عميقة للعالم فى بنية فنية متميزة، هؤلاء هم الذين أتوجه لهم بحديثى هذا وكفانا الله سوء الخطاب!
مؤكد أن هناك ذائقة جديدة لقراء يؤثرون السهولة، ويميلون إلى التشويق فى سياق ينطوى على التوابل المألوفة. ولا أستغرب لو كان أصحاب هذه الذائقة من مدمنى الفيس بوك والمواقع الإلكترونية التى تعطى كمًا لا نهائيا من المعلومات والمشهيات القرائية، ولكنها لا تعطى «فكرا نقديا» ولا «معرفة أصيلة» ولا «إبداعًا حقيقيا»، ولا نوع المثقف الذى يعرف الفرق بين قراءة التسلية العابرة، وقراءة المتعة الفنية عميقة الأثر.
من هنا، فى ظنى، تأتى الأهمية الكبيرة للطبعة الجديدة من كتاب الدكتور جابر عصفور «زمن القص ــ شعر الدنيا الحديثة»، الناقد والأكاديمى القدير، الصادر أخيرًا عن الدار المصرية اللبنانية؛ ولعل هذه الأهمية تعود إلى ما يلى:
أولا: تأتى هذه الطبعة بعد حوالى عشرين سنة من الطبعة الأولى التى صدرت فى مكتبة الأسرة عام 1999 بعنوان «زمن الرواية»، وأثارت حينها الجدل والمناقشات التى ربما ما زالت تلقى بصداها حتى اللحظة، ولكن تأتى هذه الطبعة الجديدة بزياداتها وإعادة ترتيب فصولها وتنقيحها، وكأننا إزاء كتاب آخر جديد، يقول المؤلف «سوف يلحظ قارئ هذه الطبعة الجديدة اختلافها الجذرى عن الطبعة القديمة؛ سواء فى ترتيب الفصول، أو فى التوسع فى معنى «زمن الرواية» بما يرده إلى زمنه الأوسع، وهو زمن القصّ أو السرد».
ثانيًا: يأتى الكتاب فى لحظة فارقة ليملأ الفراغ القاتل فيما أسميه ثقافة النوع الأدبى أو التأصيل النظرى لماهية القص والسرد عموما، ويربط بين جذور القص فى تراثنا القديم وبين الأشكال المستحدثة التى تم استنباتها فى تربة الثقافة العربية فى المائتى عام الأخيرة، وصارت هى الفنون الأكثر انتشارا وجماهيرية؛ أقصد الرواية والقصة.
ثالثًا: يقدم الكتاب عبر فصوله المتتابعة معالجات غاية فى العمق والشمول والإحاطة بقضايا جوهرية تتصل بفن القص والسرد الروائى؛ منها على سبيل المثال تأصيل بحث نشأة النوع الروائى فى الثقافة العربية، وربطها بعدد من الإشكالات المهمة مثل الرواية والترجمة والراوية والمرأة والرواية والمدينة والرواية والتاريخ وهى جوانب غاية فى الأهمية تكاد تكون غائبة بالكلية عند أغلب أو معظم من يمارسون الكتابة الآن (ومنهم من لم يتجاوز العشرين من عمره ويتجرأ ويقرر إعطاء خلاصة خبراته السردية فى ورش كتابية مدفوعة الأجر لقاء ثلاث أو أربع روايات منشورة منحته لقب كاتب وروائى أو روائية! وربنا يعافينا فعلا!!).
رابعًا: ثمة خلاصات مركزة ومقطرة فى غاية الأهمية والقيمة لمسيرة الفن الروائى فى مصر منذ الثلاثينيات والأربعينيات وحتى ما اصطلح على تسميته بجيل التسعينيات لا يقدر على تكثيفها وتلخيصها إلا ناقد وأستاذ كبير بقيمة جابر عصفور، ومن واقع متابعاته وقراءاته لمئات الأعمال والروايات من مختلف الاتجاهات والتيارات الفنية.. حتى لو اختلفت معه فى تقدير قيمة بعض الأعمال وهذا وارد وكثير بالمناسبة لكنك لا تملك إلا الإعجاب مثلا بتحليلاته لبعض نماذج ما سماه بالرواية الرائجة (اكتفى فى الكتاب بإيراد النماذج العربية وربما ارتأى حذف النماذج المصرية التى كان تحدث عن بعضها تفصيلا بالاسم فى مقالاته بالأهرام).
ولا أظننى استوفيت الحديث عن هذا الكتاب الذى أطار النوم من عينى مساء أمس عقب مباراة مصر والكونغو التى أقلقتنا على مستوى منتخبنا الوطنى الذى نتمنى له كل التوفيق فيما الأدوار التالية، وجعلنى أظل بصحبته حتى ظهر اليوم! وما زلت! وهذه طبيعة الكتب الفكرية المعرفية الدسمة التى تحمل من القيمة والفكر والأسئلة ما يجعل الذهن فى حالة نشاط واستفزاز معرفى!
وللحديث بقية.. إن شاء الله