نجوم البحر
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 28 يونيو 2020 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
لم يكن الخيط الأخير قد اختفى عن الأبصار.. احمرت السماء قليلا وبدأت تلك الأضواء الصغيرة القريبة من شاطئ البحر تزينه، إنها حقا نجوم البحر التى تضيئه كل مساء وتبقى هناك.. هو مركب صغير مع صياد طبعت الشمس لونها على جلده رغم أنه لا يخرج إلا عندما ترحل هى خلف السماء البعيدة.. ولا يعود إلا فى الساعات الأولى من اليوم الآخر.. لكن لا يملك إلا أن يبقى قريبا منها طوال اليوم بينها وبينه وبين البحر حكايات طويلة ورفقة لم تفسدها عوالم الزمن والتعرية!
***
كلوحة هى تلك المراكب الصغيرة بصياديها، كل يعرف أين المساحة الخاصة به بل هو حفظها عن ظهر قلب كما باطن يده.. هناك الهدوء المنعش وعندما يكون البدر أو الهلال منيرا فى المساء يتصور كل منهم أنه هناك من أجله هو فقط يؤنس خلوته وموجة البحر المتعبة.. منذ أن فتحوا ذاك الممشى القريب وهم فى حالة من الغضب، كمن استباح أرضهم وفضاءهم.. فى البدء تحملوا الأحجار والرمل والمعدات المتبقية من يوم عمل لتعبيد الطريق الموازية أو الممشى وهم يتعطلون من البحر باتجاه اليابسة التى غصت بكل ما من شأنه تشويه تلك البقعة العزيزة.
***
بعد أن رحلت المعدات والرمل والحجارة بقى الممشى لأشهر هادئا إلا من بعض الذين اكتشفوه حديثا فاطمأنوا هم الجالسون فى البحر يراقبونهم من بعيد.. ولكن الفرحة لم تطل وفجأة عج المكان بكبار وأطفال على عجلات وكبار سن ومتريضين وكثير من الموسيقى الصاخبة وبائعى الذرة والبليلة أو الحمص.. اقتحم كل هؤلاء «المزعجون» ذاك المكان المقدس.. يبدأ زحفهم من ساعات العصر الأولى ويستمرون حتى آخر ساعات الليل ثم يرحلون.. تطفأ الأنوار تاركين خلفهم أكوام من بقايا أطعمة وأوراق وقنانى الماء الفارغة وعلب المشروبات على اختلافها، وما زاد من ألم الصياد أو نجمة البحر المضيئة هو أن كثيرين منهم لم يحترموا نقاء البحر فرموا بكثير من ذلك ليستقر فى قاعه أو يطفو على سطح مائه.. عكروا ماء البحر ورموا مخلفاتهم ورحلوا ليعودوا فى اليوم التالى ليكرروا نفس المشاهد بنفس ما سموه الصيادون «التخريب».
***
رفعوا الشكاوى المتكررة ولكن بقى السؤال لمن يشتكون؟ فالقاضى ومرتكب «الجريمة» مهما كانت صغيرة، الاثنان متقاربان حد الشبه، فلا يرى أى منهم ما يفعله بأنه انتهاك للطبيعة ولحق الغير والعدالة الجماعية.. بل ردد عليهم أكبرهم سنا «الشكوى لغير الله مذلة».. لم يبالوا بنصائحه وحكمه المعتقة فى أباريق الخوف الذى لم يخرج من تحت جلدنا بعد.. قالوا نحن فى البحر أحرار بصوت الصمت فلم نخف أن نسمع صوتنا على الأرض؟
***
بدأوا بمحاربة رمى المخلفات فى البحر وضعوا اليافطات بأنفسهم فجاءت البلدية لتعاقبهم هم فقط.. تفاوضوا مع رئيس البلدية وهو يجلس خلف مكتبه الوثير وأمامه منفضته بسيجارة الكوهيبا الفاخر.. بالطبع لم يكونوا يعرفون شيئا عن أصناف السيجار حتى شرح لهم أصغرهم عمرا وهو المطلع والمتعلم والذى لم يجد وسيلة للرزق سوى صيد البحر ثم عشقها فلم يعد قادرا على أى فعل آخر.. صافحهم رئيس البلدية بشيء من «القرف» فأياديهم خشنة من تلك الشباك وبقايا ضربات الأسماك الضخمة وهى تقاوم صائدها.. وأظافرهم غير مقصوصة بعناية كما هو، أما ملابسهم فتفوح منها رائحة ماء البحر وعلى وجوههم بقايا ملحه، أى ملح بحرهم.
***
خرجوا متوجسين من نظراته الأخيرة وهو يوعدهم خيرا بل أعطاهم درسا طويلا حول محاولة البلدية المسئولة عن ذاك الشاطئ العام فى المحافظة على نظافته ولكن «ماذا نفعل مع شعب همجي؟» ردد أحدهم غضبا وبأن ذاك على وجهه تصورا أنه المعنى بالشعب الهمجى.. عند خروجهم من مكتبه الفخم فى ذاك المبنى العريق من أيام الدولة العثمانية، قال لهم لماذا تركتونا نسكت عن هذا.
***
ساروا هم نحو بحرهم، ركبوا قواربهم، بقيت نجومهم مرسومة فوق صفحة ماء ذاك البحر وهم يتغزلون به ليلا عندما يستر الظلام فوضى تلوثهم.. ثم يعودون ليكرهوه فى الصباح، وبعد الظهيرة ينظرون لكل أولئك المصطفين رافعين أصوات الراديو على صخب لا يمكن تسميته إلا بالتشويه السمعى.. تلوث بصرى وسمعى وبيئى حتى السمك الذى يصطادونه رفضه الكثيرون خوفا من تلوث تسببوا هم فيه.. امتلأت الأسواق بالسمك المستورد وفضله «الآكلون» كما يفضلون كل ما هو غريب عن تلك الأرض ولكنهم بقوا أوفياء له ولطقوسهم اليومية حتى ساعة الفجر.