شىء من الخوف

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 28 يونيو 2025 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

«ما عدت قادرا على كتابة أى شىء. أخاف من الصور والمفردات ومن خيالاتى التى تؤدى بى إلى التهلكة. كدت أنتهى كشاعر وقلبت الصفحة». جاءت هذه الكلمات على لسان بطل إحدى قصص الكاتبة العراقية إنعام كجه جى التى صدرت قبل أربع سنوات ضمن مجموعة بعنوان «بلاد الطاخ طاخ»، وهو يصف إحساس الخوف الذى سيطر عليه بعد أن ذهب لمقابلة الحاكم. كان هذا الأخير قد قرأ قصيدة له وأعجبته فأهداه مسدسا من الذهب، لم يعرف ماذا يفعل به وتركه بعلبته تحت السرير. تذكرت على الفور حيرة هذا الشاعر وأنا أشاهد فى سينما «زاوية» فيلم «شرق 12» للمخرجة والفنانة التشكيلية هالة القوصى الذى أقيم عرضه الأول بنجاح فى مهرجان كان بفرنسا العام الماضى من خلال برنامج «أسبوع المخرجين»، لأنها تتناول العلاقة ذاتها بين الحاكم والمحكوم، بين المثقف والسلطة، ولكن من خلال حكاية غرائبية، حدوتة خيالية يمكن أن تحدث فى أى زمان ومكان.
تقول هالة فى بداية شريطها، وهى أيضا كاتبة السيناريو: «كان يا ما كان ناس خايفة، ومن الخوف خيالهم هرب، ما يعرفوش البحر، باحكيلهم عنه». الراوية هنا «جلالة»، التى تلعب دورها باقتدار منحة البطراوى، هى سيدة حكيمة تجلس على كرسى غريب يخرج من غيمة بالقرب من البحر، تملك خبرة واسعة ودكانا للحواديت التى تُصبِر بها الناس وتلهيهم عن الوضع البائس الذى يعيشون فيه. اسمها اشتق على الأغلب من كلمة «جلا جلا» التى يستخدمها السحرة والحواة وهم يقومون بألاعابيهم المسلية، وهى كلمة مصرية قديمة على ما يبدو. هى نفسها تعرف أن «الصبر قبر، والخيال دوا»، لكن لتحمى نفسها وحفيدها وتقتنص القليل من الغنائم وافقت على أن تنفذ أوامر شوقى البهلوان الذى يهيمن على شئون المستعمرة الغامضة التى تعرف بـ «شرق 12»، هى ليست بلدا بعينه، لكن جهة خيالية تقع ربما فى الشرق، تطبق فيها حيل وأساليب البروباجندا السياسية ويستخدم فيها الخوف لإخضاع المجتمع. أرادتها المؤلفة خارج المكان والزمان كما فى بعض حواديت ألف ليلة وليلة وقصص التراث الشفهى التى لا تتقيد بأرض أو عهد. شخصية شوقى البهلوان (الفنان الرائع أحمد كمال) تلامس فى بعض ملامحها «الملك أوبو» بطل مسرحية ألفريد جارى التى قلبت الأعراف عند تقديمها فى نهاية القرن التاسع عشر بسبب سخريتها من السلطة والجشع والممارسات الشريرة.
• • •
هالة القوصى الفنانة ذات الخيال الخصب تربت على حواديت والدها وكتاب ألف ليلة وليلة الذى بدأت فى قراءته وهى فى الثامنة من عمرها. تتقاطع رؤيتها كذلك مع فيلم «شىء من الخوف» لحسين كمال وعبد الرحمن الأبنودى اللذين اعتمدا أيضا على الحكى والموسيقى وجعلا المكان والزمان مفتوحين على كل الاحتمالات، فالخوف من أهم وأعم المشاعر فى تاريخ الإنسانية وهو محرك رئيسى لسلوكيات البشر. ولكن هالة القوصى لجأت إلى لغة سينمائية مختلفة تماما مرتبطة بخلفيتها التشكيلية واحترافها للفنون البصرية المعاصرة. خلقت عالما أسطوريا واهتمت بكل تفاصيله حتى تلك التى قد لا يتوقف عندها المشاهد، لكنها تعرف أنها تؤثر فى الجو العام الذى أرادته لثانى أفلامها الروائية الطويلة.
ساعات لا تعمل أشكال وألوان، تليفون بقرص، أجهزة كاسيت، فساتين ودُمى صغيرة، ورود معلقة فوق «البانيو»، أدوات موسيقية ابتكرها حفيد «جلالة» لا وجود لها فى الحقيقة باستخدام المواسير وأوعية الطهى… الديكور بالنسبة لها هو رسم ثلاثى الأبعاد وتكوين تحرص على أن يظهر فى النهاية بشكل متناغم، فحين قررت الفنانة التشكيلية أن تقتحم عالم السينما كانت فى حوالى الأربعين من عمرها وبالتالى كان قاموسها البصرى قد تكون بالفعل. ولطالما رددت أنها إذا صنعت فيلما يجب أن يكون مختلفا عن غيرها من المبدعين الذين لم يأتوا من خلفية تشكيلية، خاصة وقد اختبرت العديد من الوسائط وقدمت أعمالا نحتية وتركيبات وفوتوغرافيا إلى ما غير ذلك. نحن إذا بصدد عالم ملىء بالرموز، اختارت المخرجة أن تصور الأحداث المرتبطة بواقع حياة الأفراد بالأبيض والأسود بواسطة فيلم 16 مللى، أما أحلام هؤلاء الناس والأجزاء التى تتعلق برغبتهم فى الخلاص من خلال البحر فكانت تنطق بالألوان، لأن البحر يشمل معانى التوق إلى الحرية والتطهر وغسل الهموم وإمكانية وجود حياة مغايرة على الضفة الأخرى.
• • •
اجتهد فريق العمل لنقل تصور الناس عن البحر الذى لم يعرفوه سوى من خلال الحواديت، تلك التى تساعدهم على احتمال سواد الأيام وتجعلهم يحمدون الله ويشكرونه على كل حال كما يلقنهم شوقى البهلوان فى برنامجه الترفيهى، فيرددون وراءه بانتظام أن «الرضا كنز». لكن فى الوقت ذاته الخيال الذى يشع من الحواديت هو الذى سيمكنهم من التصدى للطاغية والخروج إلى البحر. جموح الحفيد الذى يحب الموسيقى ويغنى أشعار أحمد فؤاد نجم ويرقص مع حبيبته «نونو» ويسعى لتغيير الواقع يؤكد ما تقوله «جلالة» فى مواضع مختلفة من الفيلم: «ليل وآخره نهار»، و«فى الحكاية البطل بيصارع الخوف، والخوف بهلوان، والجدع يحلم ببحر واسع»، سيصل إليه على أنغام موسيقى عذبة من تأليف أحمد الصاوى، تعزفها الأوركسترا فى مشهد أو لوحة الختام على شاطئ البحر، تختلف تماما عن المقطوعات السابقة التى عبرت عن تمرد الحفيد.
تأثرت مخرجة الفيلم ومؤلفته بشخصية منحة البطراوى، الممثلة والكاتبة الصحفية والمترجمة والمخرجة المسرحية. تربطهما صداقة وثيقة رغم فارق العمر، فالأولى فى بدايات العقد الخامس والثانية فى نهاية السبعين. استلهمت شخصية جلالة من طبيعة منحة وبَنَت عليها ما يخدمها دراميا. وضعت فى الاعتبار أن المصريين يحبون الميلودراما والسخرية والموسيقى، فكانت الخلطة السحرية التى جعلت المشاهدين يقارنون بينها وبين يوسف شاهين أحيانا، خاصة فيما يتعلق بالحيوية وجرأة الأسلوب. وأحيانا أخرى يدفعون بتأثرها بأفلام الموجة الجديدة فى الستينيات والسبعينيات، وتكون المقارنة هذه المرة بالمخرجة والفنانة التشكيلية الفرنسية - البلجيكية أنييس فاردا (1928-2019)، فكلتاهما منحازتان للنساء ولديهما أسلوب شعرى مبتكر فى تناول الموضوعات. نرى فى الفيلم «جلالة» تتحالف مع الشيطان لكى تنقذ حفيدها لكن حين تشك أن خطرا قد يصيبه تهدد بالانسحاب وغلق دكان الحواديت، أما «نونو» - الحبيبة - فتتأقلم مع الانتهاكات الجسدية التى تتعرض لها إلى أن تحلم بحياة أفضل للجنين الذى تحمله فى أحشائها، «هى زهرة الصبار» القوية المثابرة التى وصفتها هالة القوصى فى فيلمها الروائى الأول.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved