من يحكم مصر؟
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
الأحد 28 يوليه 2013 - 9:25 ص
بتوقيت القاهرة
دعك الآن من توصيف ما حدث فى ٣ يوليو، فسواء سميته ثورة كاملة أو نصف ثورة أو انقلابا ديكتاتوريا فهناك ثلاث حقائق لا يمكن انكارها، الأولى أن ثمة مسارا استثنائيا يحكم البلاد الآن تم فيه اسقاط رئيس منتخب وحل مجلس تشريعى وتعليق دستور مستفتى عليه شعبيا، والثانية هى أن المؤسسة العسكرية المصرية هى التى رجحت هذا المسار بعد انقسام شعبى واضح على الرئيس المعزول، أما الحقيقة الثالثة فهى أن الرئيس السابق وجماعته يتحملان المسئولية الأكبر عن ذلك الوضع المعقد بضيق أفق وذكاء محدود وصلف سياسى لا مثيل له!
وإذا كنا سلمنا بأننا أمام أمر واقع بغض النظر عن تأييدينا أو رفضنا لذلك المسار، فعلينا أن نسأل بوضوح من يحكمنا الآن؟ فذلك أبسط حقوقنا، وإذا كان جزء كبير من الثورة العارمة ضد مرسى جاءت من تيقن الشعب أن عناصر تابعة لمكتب الارشاد كانت تمارس دورا خفيا فى التأثير على مقدرات البلاد من خلال احتكار مراكز صنع القرار فى مؤسسة الرئاسة نفسها (وهو أمر له دلائل عديدة بالفعل لا داعى لذكرها فى تلك المساحة المحدودة)، فمن حقنا أن نفهم ونسأل من يتحكم فى مقدرتنا الآن.
•••
حينما خرج عالم الاجتماع السياسى كولن كراوتش فى ٢٠٠٤ بكتابه الشهير «ما بعد الديمقراطية» Post Democracy الذى أحدث ضجة فى الأوساط الأكاديمية الغربية وخاصة لأولئك المعنيين بالديمقراطية فإنه اعتبر أن من يحكم ليس أولئك الذين يظهرون لنا فى الحكومات التنفيذية والمؤسسات التشريعية، ولكنهم فى حقيقة الأمر شبكات سياسية تضم ماكينات مالية وإعلامية وسياسية وعسكرية تتحالف مع جهاز الدولة الإدارى لتمرير سياسات اجتماعية واقتصادية تخدم مصالح تلك الشبكات المعقدة ويتم «تسويقها» للجماهير دون أن تتحمل هذه الشبكات أى مسئولية مباشرة أمام الجماهير! أتذكر أنى قابلت كراوتش أثناء اعدادى لرسالة الدكتوراه التى كنت أقوم باعدادها فى نفس الموضوع «الشبكات السياسية وعملية صنع القرار» فى طوكيو عام ٢٠٠٩ وسألته بوضوح إذا كان هذا هو الحال فى الدول الديمقراطية «ما بعد الديمقراطية فى تسميته» فما بالنا بدول «ماقبل الديمقراطية» كمصر وغيرها من دول العالم الثالث التى لم تشهد تحولا ديمقراطيا بعد؟ فقد أجاب الرجل بوضوح أن الأمر لا يستحق عناء التفكير، فهذه الشبكات فى الدول الأقل ديمقراطية لا تحتاج حتى للتخفى وراء السياسيين ولكنها تظهر بوضوح وتخرج ألسنتها للجميع فى تأكيد واضح على احتكارها لمنابع التأثير فى المجتمع!
•••
وحينما أراجع الوضع الآن فى مصر بالمعايير التى وضعها كراوتش، فإننا نجد ما يلى:
• هناك دستور مؤقت يحكم البلاد، خرج وكتب عن عجل وبدون شفافية فضلا قطعا أنه لم يعبر عن أى فصيل ثورى أو حتى سياسى، قنن مسار ٣ يوليو، وحافظ على امتيازات المؤسسة العسكرية، وأعطى رئيس الجمهورية صلاحيات تنفيذية تشاركية مع الحكومة وأخرى تشريعية ضخمة!
• الرئيس ورغم امتلاكه تلك السلطات والصلاحيات الواسعة إلا أنه بورتوكولى انتقالى وهو وضع ملتبس لا نملك (بافتراض حسن النوايا) إزاءه إلا أن نتوقع منه أنه سيفوض هذه السلطات والصلاحيات لرأس الحكومة!
• رأس الحكومة يبدو بروتوكوليا هو الآخر، فقد فوض سلطاته وصلاحياته إلى ثلاثة نواب (دفعة واحدة) لمجلس الوزراء، أحدهم للحقائب الاقتصادية، والآخر للحقائب السياسية، أما الثالث فهو لشئون الدفاع والأمن القومى! لكن عفوا... ثانية واحدة، فالرجل الثالث هو الذى رجح المسار وهو الذى يدير مؤسسة قوية يملكها الشعب لكنها تستأثر باستقلالية اقتصادية واسعة، كما أنها عمليا تتحكم فى مقدرات البلاد من خلال انتشار رجالها فى كل أرجاء المحروسة!
• أما الحكومة، فلا داعى لتسميتها بحكومة وفاق، بل هى حكومة محاصصة، فالحقائب الأمنية والإدارية لرجال عرف عنهم خدمة الأجهزة الأمنية للبلاد والعمل لحسابها، والحقائب اللوجستية (النقل والتموين) فهى إما معسكرة أو فى يد رجال مبارك الفاشلين! أما الحقائب الاقتصادية، فهى فى يد رجال عرفوا بفكرهم اليمينى الذى يستبعد معه انحيازهم لسياسات العدالة الاجتماعية، أما الرجال المحسوبون على التيارات المدنية والثورية فهم فى حقائب التمثيل الخارجى لتسويق وتلميع المسار الداخلى!
• عفوا نسيت، هناك نائب لرئيس الجمهورية، ربما تعذرنى لنسيانه فالمنصب على أهميته وهالته (وخاصة أمام رئيس بروتوكولى) ليس له توصيف أو محل للإعراب فى الاعلان الدستورى المؤقت ولا نعرف كيف نحاسب الرجل الممارس لدور النائب (مع تسجيل اعتزازنا به) دون أن نعرف أصلا ما هى مسئولياته ولا صلاحياته!!
•••
إذا أضفت الملاحظات السابقة إلى ماكينة إعلامية تمارس (إلا من رحم ربى) الفاشية والاقصاء والتحريض وتشويه العقل الجمعى وذاكرة المجتمع وتنحاز للعسكرة أكثر من العسكر أنفسهم، مع ممارسات استثنائية للأجهزة الأمنية تعيد لأذهاننا جبروت الأجهزة الأمنية فى عهد مبارك، فضلا عن جماهير تم تجييشها لتتبنى كل تلك السياسات والخطابات وتدافع عنها لتحتمى وراءها الشبكات الحقيقية التى تدير البلاد، فربما يمكنك عزيزى القارئ تبين الآن من يحكم البلاد حقيقة فى تلك اللحظة، وهو أمر يتطلب منك أن تذهب السكرة وأن تأتى الفكرة، فإعادة بناء التيار الثورى المدافع حقا عن القضايا الرئيسية لثورة يناير لتجاوز الاستقطاب الإخوانى العسكرى هو فرض عين على كل ثائر حق ولذلك حديث آخر.
إذا أضفت الملاحظات السابقة إلى ماكينة إعلامية تمارس (إلا من رحم ربى) الفاشية والاقصاء والتحريض وتشويه العقل الجمعى وذاكرة المجتمع وتنحاز للعسكرة أكثر من العسكر أنفسهم، مع ممارسات استثنائية للأجهزة الأمنية تعيد لأذهاننا جبروت الأجهزة الأمنية فى عهد مبارك، فضلا عن جماهير تم تجييشها لتتبنى كل تلك السياسات والخطابات وتدافع عنها لتحتمى وراءها الشبكات الحقيقية التى تدير البلاد، فربما يمكنك عزيزى القارئ تبين الآن من يحكم البلاد حقيقة فى تلك اللحظة، وهو أمر يتطلب منك أن تذهب السكرة وأن تأتى الفكرة، فإعادة بناء التيار الثورى المدافع حقا عن القضايا الرئيسية لثورة يناير لتجاوز الاستقطاب الإخوانى العسكرى هو فرض عين على كل ثائر حق ولذلك حديث آخر.