ما بين التنقب والتعري
محمد عبدالمنعم الشاذلي
آخر تحديث:
الخميس 28 يوليه 2022 - 7:20 م
بتوقيت القاهرة
التنقب والتعرى سلوكان متضادان تماما تفصل بينهما هوة سحيقة يستحيل معها أن يلتقيا أو يتشابها فى شىء، وتقطب المجتمع بينهما وبات أتباع كل قطب يقف بالمرصاد لأتباع القطب الآخر. هل هذا أمر حقيقى وهل إذا تأنينا وتفكرنا فى الأمر نؤكد هذا المفهوم؟
دعونا نبدأ بالتنقب، التنقب ليس مجرد تغطية الجسم والرأس والوجه لكنه تغطية العقل والهوية والشخصية ومنع تفاعل الإنسان مع غيره من البشر بحيث يصبح الصوت عورة، وتصبح المرأة مجرد كتلة سوداء لا معالم لها ويؤدى انعزالها وعدم تفاعلها مع البشر إلى اضمحلال شخصيتها حتى تصبح عاجزة عن التعبير عن نفسها وتحقيق ذاتها فى المجتمع.
أما التعرى، فلو توقفنا فى معناه لوجدنا تشابها كبيرا بينه وبين التنقب، ويحل اللحم والأثداء والأرداف والسيقان محل القماش الأسود الذى يحيط بالإنسان وتختفى الهوية والعقل ولا يبقى أمامنا سوى الأنثى التى تخاطب الغريزة والشهوة بعد أن يكون العقل والشخصية والهوية قد احتجبوا.
ليس هذا دفاعا عن من يقول إن ملبس المرأة هو الذى يدفع المتحرش إلى سلوكه البذىء المرفوض المدان، فلو اتبعنا هذا المنطق لسامحنا لصوص السيارات على سرقة السيارات الفارهة، وسامحنا من يكسر نوافذ متاجر المجوهرات لأن بريقها زغلل عيونهم. تقاس مكانة الرجل ومدى تحضره واحترامه بأسلوب نظرته إلى المرأة، وهل هى إنسان ند له يتحاور معها فى مبارزة عقلية ثقافية متحضرة وفى مجال العمل الاحترافى يقارعها الحجة بالحجة، يقنعها بحجته أو يقتنع بحجتها إذا كانت الأقوى أو يتفقا على ألا يتفقا وينتهى الحوار بأسلوب ودى متحضر حتى تظهر حجة جديدة ترجح أحد الطرفين.
وفى إطار هذا التفاعل الراقى بين العقول قد تنشأ وتنمو عاطفة دافئة تقرب بين القلوب بالتآلف والتراضى. ونفس القول ينطبق على المرأة وعن كيفية تقديم نفسها للمجتمع، وهل تقدم نفسها كإنسان ذى شخصية وعقل وكيان أم كرمز للغريزة وللشهوة تنتظر رجل الغاب الذى يجذبها من شعرها إلى كهفه مسلحا بهراوته الغليظة أو بأكياس المال التى يغريها بها. ولو تابعنا الكارثة الإعلامية التى ابتلينا بها والمسماة بالتيك توك، لوجدنا العديد من هذه النماذج؛ فتيات يعرضن أجسادهن وكأنهن فى سوق للنخاسة. عرى وإيحاءات وإيماءات وألفاظ يندى لها الجبين.
• • •
العرى ليس عرى الملبس لكنه سلوك فعندما حققت البطلة بسنت حميدة فوزها الذهبى علق بعض السخفاء المغيبين وانتقدوا سيقانها وأذارعها العارية ولو كانت لديهم بصيرة، لشاهدوا فى تقاسيم وجهها العزيمة والهمة ورأوا فى خطوط عضلات ذراعيها وساقيها ناتج الجهد والالتزام والحرمان والآلام المرتبطة ببرامج التدريب القاسية والعنيفة التى أهلتها لما وصلت إليه ولرأوا فى صورة بسنت صورة إنسان يهتف بأعلى صوته أنا مصمم على السبق والفوز وتحطيم الأرقام القياسية حتى أقف على منصة التتويج لأتلقى الميدالية الذهبية واستمع إلى النشيد الوطنى لبلدى يعزف وراية بلادى ترفع وإعلام العالم يتحدث عن البطلة المصرية.
لدينا تاريخ طويل وعريق للسينما المصرية يمتد لأكثر من مائة عام شاركنا خلالها فى العديد من المهرجانات السينمائية فى كان وبرلين وغيرهما مثلتنا فيها نجماتنا العظيمات الكبيرات فاتن حمامة وشادية وماجدة، وكان تمثيلهن لمصر وصناعة السينما راقيا مشرفا يظهرن بأزياء أنيقة راقية مشرفة فتظهر فاتن حمامة وكأنها تقول أن أداءها فى دعاء الكروان لا يقل عن أداء فيفيان لى فى فيلم ذهب مع الريح. وشادية وكأنها تقول أن أداءها فى فيلم اللص والكلاب لا يقل عن أداء سوزان هيوارد فى فيلم الشوارع الخلفية. وتؤكد ماجدة أن أداءها لدور جميلة بوحيرد لا يقل عن أداء إنجريد برجمان لدور جان دارك.
أما المهرجانات السينمائية اليوم فابتعد الموضوع والمادة الفنية عن الساحة وغطى عليها التبارى فى العرى وشذوذ الموديلات لممثلات فى أول الطريق يتبارين فى إظهار هرم وشيخوخة من سبقوهن فى مشوار الفن بإظهار أكبر مساحة ممكنة من أجسادهن، وتقع النجمات الهرمات فى الفخ ويتبارين فى إبراز أثداء وأرداف مترهلة ووجوه أضناها الشد حتى كادت تتمزق. لعل المشكلة التى نواجهها هى أن البعض يريد أن يجعل من الأمر مباراة وتنافسا بين المنقبات والعاريات دون إدراك أن هناك وسطا يمثل قدوة محترمة، وأنى لأتعجب على من يرسلون صورا التقطت فى شواطئ ميامى وستانلى فى الخمسينيات من القرن الماضى لسيدات بمايوهات مع تعليقات أين كنا وأين أصبحنا بعد أن داهمتنا قوى التطرف وكان كل نساء البلد قد تنقبن وأن المايوه قد اختفى من حياتنا، وكأن مرسلو هذه الصور لم يذهبوا إلى شواطئ الساحل الشمالى وشرم الشيخ والجونة وغيرها المكتظة بالبكينى وغيره من المايوهات. لدينا شريحة يمكن أن تكون قدوة بعملها وشخصيتها وإنجازها من النساء الجميلات الأنيقات أناقة راقية محترمة فى جميع الأصعدة، ففى المجال السياسى لدينا الوزيرات السيدات مشيرة خطاب وفايزة أبو النجا وهالة السعيد ونبيلة مكرم ورانيا المشاط، ومن السفيرات سعاد شلبى ونائلة جبر ووفاء بسيم، ومن أساتذة الجامعة الدكتورة ماجى الحلوانى والدكتورة فايزة هيكل والدكتورة مريم عياد، ومن الإعلاميات درية شرف الدين وسناء منصور، ومن الفنانات فيروز وماجدة الرومى وفاتن حمامة وسميرة أحمد ومحسنة توفيق. هؤلاء هن القدوة والمثل الذى يحتذى.
• • •
المرأة هى نصف المجتمع ولا يمكن لأى مجتمع أن يتقدم نحو المستقبل إلا إذا صلح وقدر نصفيه حتى لا يكون مجتمعا أعرج عاجزا عن أن يخطو إلى الأمام. لقد مضى أكثر من قرن منذ دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة واحتضان صفية زغلول للمرأة المصرية وجهود هدى شعراوى ومشاركة المرأة المصرية فى ثورة 1919 وتفوق سميرة موسى فى علوم الذرة ثم تعيين الدكتورة حكمت أبوزيد كأول وزيرة مصرية والدكتورة عائشة راتب كأول سفيرة. حققنا خلال هذه الفترة خطوات كبيرة فى طريق تمكين المرأة وقابلتنا انعكاسات لازال علينا تخطيها وأعتقد أنه بعد تاريخ حافل من الكفاح والإنجاز، فإن تقديم المرأة لنفسها كجسد يثير الغرائز والشهوات وطمس الشخصية والعقل والهوية هو انتكاسة لا تقل جسامة عن تقديم نفسها كخيال أسود يغطى جسدها وعقلها وهويتها وشخصيتها باعتبارهم عورة لا بد من سترها.
نحن فى أمس الحاجة إلى برنامج للارتقاء بالمرأة وبالرجل، ويؤكد الاعتزاز بالإنسانية كقيمة سامية وأن الإنسانية هى عملة ذات وجهين؛ الرجل والمرأة، وأن أى عملة تفقد قيمتها إذا طمس أحد وجهيها، ويؤكد أن المرأة مكملة للرجل والرجل مكمل للمرأة. ولا يمكن أن نعتبر العلاقة بينهما علاقة صراع أو تحارب لينتصر طرف على الآخر بل هما جناحان للإنسانية إذا قويا معا انطلق الإنسان وحلق فى عنان السماء.