ظاهرة اسمها لبنان
محمد عبدالمنعم الشاذلي
آخر تحديث:
الجمعة 28 أغسطس 2020 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
كيف نفسر ظاهرة اسمها لبنان؟ كيف نفسر مكانا يعيش فيه التعمير جنبًا إلى جنب مع التدمير؟ كيف يتعايش فيه الفن والإبداع مع الهمجية والمسخ؟ كيف يتعايش الجمال مع القبح والكراهية مع الحب؟
بيروت كانت من أجمل العواصم العربية.. معمارها الذى يجمع بين الحداثة والأصالة بشكل متناسق متناغم أنيق بناها اللبنانيون بأيديهم ثم هدموها بأيديهم خلال حرب أهلية ضروس دارت على مدى أكثر من عشرين سنة ثم أعادوا ترميمها وعاد لها شيء من رونقها ثم عادوا فدمروها!
شعب مبدع مثقف، شعراء صاغوا أبلغ القصائد وملحنون وضعوا أعذب الألحان ومطربون غنوا أحلى الأغانى، فضلا عن صحفيين تركوا بصمتهم على بلاط صاحبة الجلالة وأدباء وفلاسفة تُرجمت أعمالهم إلى لغات العالم وأثروا ضمير وفكر الحضارة الحديثة، حتى مجال احتكره الغرب ويصعب اختراقه مثل تصميم الأزياء بما فيه من رقة وجمال لم يستعص على اللبنانيين.
***
إنى على ثقة أنه لو أجرى إحصاء لعدد المبدعين اللبنانيين ونُسبوا إلى عدد سكان لبنان لوجدت لبنان فى موسوعة جينيس للأرقام القياسية كأكبر موطن للمبدعين فى العالم.
تفوق لبنان فى السياحة والضيافة ولم يتعلم اللبنانيون هذا الفن فى مدارس الفندقة السويسرية والفرنسية، لكنها طبيعة فى الإنسان اللبنانى الكريم البشوش المضياف. كل هذه السمات الحضارية النبيلة تتجمع فى شعب واحد وعلى أرض واحدة ثم يحدث فيها ما حدث من عنف وكراهية ودمار.. كيف؟!
ثلاث حروب أهلية دامية سالت فيها الدماء بحورًا وارتكبت خلالها من المجازر ما يشيب لها الولدان مثل صبرا وشاتيلا وغيرها.
مكان آخر مرشحة له لبنان على صفحات موسوعة جينيس هو عدد الاغتيالات السياسية التى جرت فيها وكان من ضحاياها عدد من رؤساء الجمهورية ورؤساء الوزراء ورؤساء الأحزاب والسياسيين والصحفيين والإعلاميين. من المفارقات أن الجاليات اللبنانية فى المهجر سواء فى غرب أفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو فى دول الخليج تعد من أكثر الجاليات تماسكًا وتعاونًا لا يعكر تماسكها أى انتماءات طائفية أو دينية، أما ذووهم فى أرض الوطن فمتقاتلون متحاربون متباغضون.
***
كيف نفسر ذلك؟ قراءتى الشخصية ترجع بى إلى عام 1860 عندما كان لبنان خاضعا للحكم العثمانى وكانت فرنسا تكاد تحتكر التجارة مع لبنان اعتمادًا على وجود جالية كاثوليكية كبيرة وثرية من آثار التواجد الصليبى فى المنطقة وكانت تعيش فى توائم وتناغم مع باقى السكان. أرادت بريطانيا أن تكسر الاحتكار الفرنسى وتستأثر بجزء من التجارة المجزية مع لبنان فشجعت الدروز فى جبل لبنان على التمرد وسلحتهم، وفى نفس الوقت تدفق السلاح الفرنسى على الموارنة واندلعت الحرب الأهلية الأولى بين الدروز والموارنة. ويحفل التراث الشعبى اللبنانى بالأساطير فى المجازر والمذابح التى ارتكبها كل طرف ضد الآخر، بعضها حقيقى وبعضها مبالغ فيه، إلا أنها زرعت بذرة الكراهية والانشقاق بين الطرفين. وفى عام 1920 احتلت فرنسا لبنان وسوريا عقب معركة ميسلون تطبيقا لما كانت تراه حقها طبقا لاتفاقية سايكس بيكو وعملت على تكريس الطائفية وتقريب الموارنة على حساب الطوائف الأخرى. واستجابت الطوائف. وفى عام 1926 أرسل رئيس الطائفة المارونية إلياس حايك إلى وزير الخارجية الفرنسى Aristide Briand يذكر فيه أن المبرر الأساسى لإنشاء دولة لبنان هو أن تكون ملاذًا لمسيحيى الشرق وأن يظل ولاؤها دائما لفرنسا!
وفى عام 1932 أجرت فرنسا تعدادًا فى لبنان كرست فيه الانقسام الطائفى وعلى أساسه وضعت التركيبة السياسية الشاذة للبنان رئيس جمهورية مارونى ورئيس وزراء مسلم سنى ورئيس برلمان مسلم شيعى وتقسيم مقاعد البرلمان على الطوائف حسب نسبتهم ويصل الأمر إلى تقسيم الموظفين فى الدواوين تقسيما طائفيا.
ورغم التغيير الذى طرأ على التركيبة السكانية فى لبنان خلال قرابة تسعين سنة إلا أن الضغوط الطائفية تمنع تغيير الحصص وتمنع حتى إجراء تعداد جديد. ولعل النموذج اللبنانى هو نموذج فج لتسييس علم الديموغرافيا. ولعل النموذج الآخر الفج الذى أدى إلى انفجار هائل هو النموذج العراقى حيث كان متعارفا أن نسبة الشيعة فى العراق لا تتجاوز 40% وينقسم السنة الذين يمثلون حوالى 60% باستثناء أقليات مسيحية ايزيدية بين العرب والأكراد وبعد الغزو الأمريكى للعراق صار يتردد أن نسبة الشيعة يتجاوز 60% وأوصلته بعض المصادر إلى 70% مما أثار المخاوف لدى السنة وأدى إلى موجة العداء بين الطرفين.
***
بعد مضى ما يقرب من مئة عام على الحرب الأهلية الأولى بين الموارنة والدروز وفى عام 1958 رفض الرئيس المارونى كميل شمعون التخلى عن السلطة بعد انقضاء ولايته واستنجد بالولايات المتحدة التى أرسلت الأسطول السادس إلى لبنان لتثبيت حكمه، واندلعت الحرب الأهلية الثانية فى لبنان وكانت مصر الناصرية فى أوج قوتها بعد الانتصار فى معركة السويس وتحقيق الوحدة مع سوريا، فاستطاعت أن تحتوى الأمر ونجحت فى إزاحة شمعون وتولى الرئاسة فؤاد شهاب ذو النزعة الاستقلالية.
إلا أن الحرب الأهلية والمد الناصرى فى المنطقة أصاب النظم المحافظة بالهلع وفتحت الطوائف اللبنانية الباب لكل التيارات كى تلعب على الساحة اللبنانية، وصار لكل قوة إقليمية لسان حال فى لبنان من صحفية وإذاعية وميليشيا وأحزاب، كل يحصل على تمويل من سوريا ومن إيران الشاه أو من السعودية ومن فرنسا والولايات المتحدة بل وإسرائيل، وكانت حرب 67 نقطة تحول جديدة بتمركز حركات فلسطينية مسلحة أثرت على الساحة اللبنانية وعلى توازنات القوى ثم كانت الطامة الكبرى فى «أيلول الأسود» فى سبتمبر 1970 والصدام الأردنى الفلسطينى وإجلاء القوى الفلسطينية من الأردن إلى لبنان وما تلاه من دخول قوى عربية أكثر تطرفًا إلى الساحة خاصة القذافى وحزب البعث فى سوريا وصدام حسين فى العراق مما خلق جوًا أكثر التهابًا فى لبنان وأدت التجاوزات الفلسطينية التى لم تعتبر بدرس الأردن إلى تفجر الحرب الأهلية فى لبنان.
ثم كان الحدث الآخر المؤثر على لبنان تأثيرًا مأساويًا وهو ثورة الخمينى فى إيران عام 1979 وسقوط حكم الشاه، ومع الحكم الجديد امتدت أطماع إيران إلى نشر عقيدتها الثورية والمذهبية ونقلت نشاطها إلى لبنان وادعت أنها ترفع راية المقاومة ضد إسرائيل وأطلقت العنان لحزب الله وحركة أمل فى لبنان وورطت لبنان فى كثيرٍ من المواجهات التى كانت نتائجها وبالًا عليها.
تزامن ذلك أيضًا مع الغزو الإسرائيلى للبنان عام 1982 واستمرارها فى احتلال جنوب لبنان لمدة ست سنوات شكلت خلالها الميليشيا التى أطلقوا عليها جيش جنوب لبنان بقيادة سعد حداد الذى دعمته وسلحته إسرائيل ثم كان التمركز السورى فى لبنان. وفى عام 1976 دخلت سوريا لبنان تحت غطاء قوة الردع العربية للفصل بين الأطراف المتصارعة فى الحرب الأهلية اللبنانية لكنها سرعان ما تحولت إلى قوة احتلال ظلت جاثمة حتى تزايدت الضغوط الدولية عليها عقب اغتيال رفيق الحريرى عام 2005 وتركت وراءها سلاحا وميليشيات تنفذ سياساتها.
***
ثم كانت الحرب الأهلية السورية وتشرذم البلد إلى ميليشيات متحاربة تحركها قوى إقليمية ودولية، ونظرًا للسيولة السائدة على الحدود السورية اللبنانية فقد انسكبت الحرب من سوريا إلى لبنان؛ رجالا وسلاحا وإمدادا وتمويلا. وهكذا صارت لبنان أرضا كبيرة للحرب بالوكالة بين القوى الإقليمية والدولية كل قوة تدعم ميليشيا من الميليشيات وطائفة من الطوائف وشعر المواطن اللبنانى أن الدولة صارت عاجزة عن السيطرة وفقدت فاعليتها، فصار يبحث عن الحماية والأمن فى كنف الطائفة فزادت سيطرة الطوائف وغلوها.
الشعب اللبنانى شعب متحضر محب للجمال والإبداع، لكن الداء متوطن فى الطوائف وأمرائها الإقطاعيين الذين يستفيدون من الدعم والتمويل الخارجى ويعيشون على حالة الفوضى السائدة. ولنا أن نتأسى بما جاء فى القرآن الكريم « إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا» ونقول إن الميليشيات إذا دخلوا دولة دمروها.