بعد الدمار العمرانى والبشرى الهائل الذى أصاب أوروبا من جراء الحربين العالميتين الأولى والثانية دخلت المجتمعات الأوروبية فى دوامتى اللا يقين والإنكارية. فجأة ما عادت الثوابت الفكرية والسلوكية السابقة، منذ عهود النهضة والأنوار، قادرة على ملء حياة الإنسان الأوروبى بالهدوء والسلام الداخلى. تمثلت قمة اللا يقين والضياع والشعور باليأس والقنوط فى الصعود المذهل لظاهرة الإنكارية (Nihilism) التى لا ترى وجود معنى أو قيمة لأى شىء فى هذه الحياة، بما فيها الإيمان الدينى والسلوكيات الأخلاقية والعلاقات والتنظيمات المدنية للمجتمعات. لقد أجمل الوضع قول أحدهم بأنه عندما يفقد الناس ثقتهم فى مثالياتهم فإنهم يهزمون قبل دخولهم المعركة.
ولذا ما كان مستغربا ذلك الصعود المذهل، خصوصا بين الشباب، لفلسفة الفرنسى جون بول سارتر الوجودية القائلة بعدم وجود أى معنى للحياة، أو النجاح الكبير للكتابات وروايات ألبير كامو الفرنسى الجزائرى القائل بأن الحياة ليست أكثر من عبث فى عبث، أو الانتشار المكتسح لمسرح الكاتب المسرحى الإيرلندى سامويل بيكيت من مثل مسرحية (فى انتظار جودو)، جودو الذى يعبر عن الأمل الذى يأتى ولا يأتى، أو كتابات كولن ويلسون البريطانى وجماعة الثائرين من أمثاله الرافضة لفكرة الانتماء والداعين لحرية الفرد المستقل القادر على شق طريقه فى الحياة.
وبالطبع لم يقف الأمر عند حدود الفلسفة والأدب، بل تعداه إلى حقول السينما وشتى فنون التعبير الأخرى.
***
مناسبة استرجاع ذاكرة تلك الحقبة، التى كانت مؤقتة وعابرة، هو التماثل مع تلك التجربة لما يجرى فى وطن العرب حاليا. فالدمار العمرانى والبشرى الذى طال العديد من الأقطار العربية الرئيسية، والانتكاسات التى أصابت محاولات الخروج من حياة الاستبداد والظلم التاريخية، قد بدأت تفعل مفعولها فى الشباب العربى، وإدخاله فى حالة الإنكارية واللا يقين تجاه ثوابت الأمة الكبرى، تماما كما فعلت الحربان العالميتان بالإنسان الأوروبى.
هناك شكوك وإنكار حول العديد من الثوابت الدينية، إن لم تكن كلها، وحالة إنكارية للثوابت العروبية القومية من مثل أهمية وضرورة الوحدة العربية فى مواجهة الاستعمار والصهيونية، وهناك حالة مشاعر عبثية تجاه الخطر الأيديولوجى والسياسى والأمنى الصهيونى فى فلسطين المحتلة وفى خارجها، بل والتجرؤ برفع أعلام كيانها، وهناك حالة إنهاك نفسية تجاه جدوى الفعل السياسى المنظم لمواجهة أعداء الخارج ومستبدى الداخل ومثيرى الفتن التفتيتية الطائفية والقبلية والعنصرية.
يرافق ذلك الشعور اللا يقينى اليائس العام صعود وانتشار لكتاب وفنانين وإعلاميين وفقهاء مذاهب ودجالى سياسة يساهمون ليل نهار فى نشر خطابات الإنكارية لكل الثوابت، وخطابات الاحتقار لكل منجزات التاريخ والنضالات التحررية الجماهيرية ولإمكانيات هذه الامة فى النهوض من حالة التخلف التى تعيشها.
فى أوروبا وُجهت حالات الإنكارية الفوضوية تلك بإعادة بناء المدن، وتفعيل ماكنة الاقتصاد، وتنظيم الحياة السياسية على أسس ديموقراطية، وبناء تدريجى لدولة الرفاهية الاجتماعية، وصعود لفكر متوازن معقول يصلح الثوابت الخاطئة إن وجدت ويؤكد الثوابت الصحيحة لإرجاع العافية للمجتمعات. لقد لعبت سلطات الدول ومؤسسات المجتمع المدنى أدوارا مشهودة لتنفيذ كل ذلك، ورأينا، على سبيل المثال، ذلك التفاهم العاقل فيما بين القوى الرأسمالية والنقابات العمالية للتخفيف من الاضطرابات الاجتماعية.
***
فى بلاد العرب سنحتاج إلى أن نتعلم من ذلك الدرس الأوروبى لنخرج من حالة الضباب والدمار التى تعيشها الأرض العربية، إلى حالة التوازن المطلوب لإعادة إعمار ما دمرته قوى الاستعمار والاستخبارات والصهيونية العالمية وبعض الدول العربية والإقليمية وأدوات الجحيم الممنهج المتمثلة فى جنون عنفى جهادى متخلف باسم دين الإسلام البرىء من كل ذلك.
لكن لنكن صادقين مع النفس، إذ لدينا عقبتان لم توجدا فى المشهد الأوروبى. لدينا عقبة الأنظمة السياسية غير الديموقراطية التى هى أيضا تعيش حالة اللايقين والإنكار والعبثية السياسية والعجز البائس أمام تحديات المتكالبين على وطن العرب. لدينا أيضا مجتمع مدنى منهك وملىء بالعلل من جراء تهميشه التاريخى وقمعه الأمنى المستمر عبر القرون.
وهما عقبتان إن لم تحل معضلاتهما فى القريب العاجل فإن حالة اللا يقين والإنكارية التى أصابت أوروبا مؤقتا، تلك الحالة ستصبح حالة مرضية دائمة عندنا قد تمتد عبر القرون القادمة.
الأمة العربية تمر حاليا فى حالة صعبة بالغة التعقيد، وعلى عقلاء الأمة أن يفعلوا شيئا ويتقدموا الصفوف قبل فوات الأوان. هناك الكثير مما يستطيعون فعله، وأمامنا تجربة أوروبا على سبيل المثال، فلنتعلم من عبرها وحيويتها بإبداع عربى ذاتى.