د. كمال إمام.. أبو المقاصد
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 28 سبتمبر 2018 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
هو الأب الروحى لعلم «مقاصد الشريعة الإسلامية» فى مصر، وأحد فرسان هذا العلم فى العالم العربى والإسلامى، وقد تَوج هذه الأبوة الحقيقية بموسوعته النادرة التى تقع فى عشرة أجزاء والتى طُبعت فى العاصمة البريطانية لندن هى «الدليل الإرشادى لمقاصد الشريعة الإسلامية».
وعلم المقاصد من أشرف العلوم لأنه يمثل «روح النصوص» فالنص كالإنسان إذا فقد روحه وغابت عن الداعية أو الفقيه مقاصده لم ينجح لا فى فهم الدنيا ولا الدين، ولن يستطيع أحد الاستفادة من الفقه الإسلامى أو يطبقه فى الحياة العلمية دون فهمه لعلم المقاصد كما يردد دوما.
ويرى د/كمال إمام أن جزءا كبيرا من الخلل الذى أصاب الحركة الإسلامية فى مصر والعالم العربى نتج عن غياب علم المقاصد فى توجيه مسيرتها وتصرفاتها، فلو أنها أدركت فقط بندا واحدا من فقه المقاصد الشرعية «وهو حفظ النفس» ما وقعت فيما وقعت فيه من عنف وإراقة دماء أو صدام مسلح لم تجن من ورائه سوى الخسائر المتتالية لها وللدين وللوطن.
فالفقهاء قالوا «حفظ النفس» مطلقا، وليس حفظ النفس المسلمة، أو المؤمنة،أو التى تتبعنى دون سواها، ولكنه حفظ لكل الأنفس، نفس المسلم والمسيحى واليهودى والبوذى، وحفظ نفوس كل الجنسيات والأعراق والمذاهب.
ويعبر د/كمال عن ذلك بقوله «قاعدة حفظ النفس مثلا فى المقاصد هى موجهة أساسا لمصالح الإنسان قبل الأديان»، وهى تلزم الجميع حكاما ومحكومين بـ «حماية كل الأنفس بلا استثناء».
وتلحق بها القاعدة المقاصدية «حفظ المال» وهى تحمى مال الجميع بغير استثناء المسلم وغير المسلم، مال الفرد والدولة، مال السائح والمستثمر، وكذلك أموال خصومى فى الفكر أو الدين أو السياسة أو المذهب.
كما تمنع هذه القاعدة مصادرة أموال الغير بغير حق، وتمنع وحدها كل أشكال السرقة والنهب والنصب والغصب والمصادرة.
وكما يعير عالمنا المقاصدى «المقاصد تحمى الجميع وأحكامها تسرى على الجميع».
ويرى عالمنا «أن الحركة الإسلامية لو طبقت فقط قاعدة تحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما، أو درء أعلى المفسدتين بقبول أدناهما، لأراحت واستراحت، وأغلقت على نفسها وغيرها أبوابا من الشرور لا يعلم مداها إلا الله، ولقبلت المتاح من الخير درءا للشر وتحصيلا للخير ولو أنها فعلت ذلك لما أغلقت الأبواب فى وجهها، وما سدت الآفاق أمامها وأمام غيرها ممن عوقب بجريرتها أو قاربها، وما وصلت إلى النفق المظلم الذى وصلت إليه».
قلت له: نعم، فقد كنا فى شبابنا لا نعلم عن هذه القواعد وأمثالها شيئا، وما كنا ندرى أن تطبيق قاعدة مقاصدية واحدة يمكن أن تنقذ مئات الأرواح من الموت أو السجن أو الصدام المروع.
فقال: «علم المقاصد يتحرك على الأرض فى كل شىء بدءا من الفرد إلى الأسرة وصولا إلى الدولة والوطن، وقواعده تحمى الجميع وتسرى عليهم، وتسعدهم، وتحميهم من الآخرين وتحمى الآخرين منهم».
فحينما يطلق المقاصدى عبارة «حفظ العرض» فهو لا يحمى عرضك فقط من اعتداء الآخرين عليه ولكنه يحمى فى الوقت نفسه أعراض الآخرين منك، فالكل يستظل بالحماية والرعاية والأمان والسلام.
ويبدع عالمنا المقاصدى حينما يبسط الهدف من علم المقاصد بقوله: مقاصد الشريعة تعد بمثابة الروح العامة التى تؤدى إلى الربط بين الخير الذى يريده الله للناس والخير الذى يريده الناس لأنفسهم وهذا يمثل أرقى ما وصل إليه الفكر السياسى العالمى الحديث الذى يهتم اليوم بـ«حماية الخير العام للناس جميعا».
لم يأت علم د/كمال إمام من فراغ ولم يؤلف خمسين كتابا ــ بعضهم موسوعات مثل «الأعمال التمهيدية لموسوعة الفقه المقارن والتى تقع فى 16 مجلدا والتى طبعت فى بيروت ــ من فراغ أو كضرب من ضروب الحظ.
فقد مر بمراحل علمية وفكرية شاقة قانونية، بدأها بالتتلمذ على عبقرى أصول الفقه د/مصطفى شلبى، الذى كان يلتصق بالأفذاذ من طلابه، وكان سؤاله الشهير لمن يزوره: جئت زائرا أم سائلا؟ فإذا قال سائلا قد يظل يشرح له ويجيبه لساعات، وخاصة إذا وجد فيه عبقرية وذكاء، ومدرسته أنجبت آلاف العلماء.
كان د/كمال يمتحن دبلومة الشريعة وهو مجند فى الجيش وحضرا الامتحان بزيه العسكرى وكان فى شهر رمضان فظل الممتحنون يسألونه وحده ثلاث ساعات حتى قال لهم د/شلبى: كفى.. نريد إدراك إفطار المغرب، وهكذا كان يتأهل العلماء.. قلت: الآن بعض دبلومات الكليات، ومنها دبلومة التربية مثلا بحسب شراء الكتب والمصاريف لأنها المدخل للتوظف فى التعليم فيقيل عليها الآلاف، وبعضهم لا يحضر، المهم الدفع وكفى.
يقول د/كمال: صادفتنى مسألة صعبة يوما بعد شهرتى فذهبت لأستاذى د/شلبى وجلسنا بالقرب من ميدان التحرير وقتا طويلا وهو يشرح لى المسألة وهو فى الثمانين من عمره، بعدها أحالنى على كتاب «المحيط فى أصول الفقه» وكان وقتها مخطوطا لم يطبع.
أحب عالمنا الأصول باعتبارها فلسفة الشريعة، وأحب المقاصد باعتبارها روح الشريعة، وزاد تعمقه فيهما مشاركاته العديدة فى مؤتمرات وندوات دار الحديث الحسنية بالمغرب وقربه من العلامة الموريتانى عبدالله بن بيه، د/عبدالوهاب أبو سليمان المغربى.
وقد زار د.كمال البلاد العربية والإسلامية بلا استثناء ومعظم بلاد العالم تقريبا ومنها، فرنسا، وإيطاليا، وسويسرا، وألمانيا، وبريطانيا، والدانمارك وأعطى محاضرات كثيرة فى جامعات هذه الدول.
كما أعطى محاضرات فى معهد القانون الإسلامى بجامعة هارفارد أرقى جامعات العالم، وكذلك فى جامعات نورث كارولينا وديوك وجامعة لندن، وزار كل المؤسسات القضائية الأمريكية.
وكان يردد دوما مقولته المأثورة «الفقيه بحق عليه ألا يعرف مجتمعه فحسب، ولكن عليه أن يعرف عصره كله، وعليه أن يتعرف على الحضارة الإنسانية كلها بوجهيها الإيجابى والسلبى».
أما عن الخلطة السحرية التى كونت عقل د/كمال فقد امتزجت فيها جدية ورجولة الصعيدى وشهامته وصرامته، وبيئة إسنا مقر العلم والعلماء والقضاة والشجعان، مع تكوينه الأكاديمى الصارم بحثيا وعلميا، فضلا عن كونه ثالث ثلاثة كونوا النواة الأولى لإذاعة القرآن الكريم بعد أن تحولت من كابينة استماع تبث القرآن فقط إلى إذاعة كاملة سنة 1975 وكان معه العملاقان د/عبدالخالق عبدالوهاب والمرحوم عزت جرك، وكان كل منهم يتولى إدارة أنشأها من الصفر حتى القمة.
ومن خلال هذه الإذاعة الوليدة تعرف عالمنا على كل فقهاء وعلماء وشعراء مصر حيث قدمهم جميعا فى برامجه، وهذه الفترة أفادته معرفيا وعمليا، ونقلته من الأكاديمية البحتة التى تهم الخواص إلى اللغة الإنسانية الرقراقة التى تصل لكل شرائح المجتمع.
لقد أشرف عالمنا على خمسين رسالة دكتوارة فى مصر وأكثر منها خارجها وحصل على أعلى جوائز علمية فى جامعتى القاهرة والإسكندرية، ولكنه حتى الآن لم يحصل على التقديرية التى حصل عليها كثيرون لا يستحقونها ولم يكن لها نتاج علمى رصين وبعضهم كان غشاشا والأسماء معروفة، ولا يمكن لهم أن يحاضروا فى جامعة مثل هارفارد، ولكن صاحبنا وأمثاله ليس لهم حظوة عند أهل الثقافة فى مصر الذين لا يحبون علماء الشريعة عامة.
لك الله يا عالمنا الجليل يا صاحب علم المقاصد، الذى يعد بمثابة الفقه الأكبر فى الشريعة، وسلاما على العلماء فى كل مكان سواء قدرهم البشر أو خذلوهم.