العلم الفلسطيني والصلافة السياسية

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 28 سبتمبر 2025 - 7:25 م بتوقيت القاهرة

لا يُمكِن لأى إنسان يمتلك أدنى حسٍّ بالإنسانية والعدالة إلا أن يفرح باعتراف مجموعةٍ كبيرةٍ من الدول أخيرًا بالدولة الفلسطينيّة. خاصّةً وأنّ علم فلسطين والكوفية الفلسطينيّة قد أصبحا رمزين أساسيين لحركات الشباب والطلاب حول العالم، ولكلّ من يناضل من أجل العدالة وضدّ التطرّف وقمع الحريّات والجنون الذى تتّجه إليه كثيرٌ من دول العالم، وبالتحديد فيما يُسمّى الغرب، من أوروبا إلى الولايات المتحدة.

إلا أنّه لا يُمكِن أيضًا لأى متبصّرٍ فى الأحداث إلا أن يشهد على مدى الصلافة فى توقيت الإعلان عن هذا الاعتراف ومغزاه.

يناضل الفلسطينيّون من أجل حقوقهم منذ أن سُلِبَ وطنهم وهُجِّروا منه. لكنّ الاعتراف يأتى متأخّرًا كثيرًا مع الإبادة الجماعيّة والتدمير الممنهج لكلّ مقوّمات الحياة اللذين يقوم بهما بنيامين نتنياهو وجيشه فى غزّة، وبعد أن قضمت المستوطنات معظم أراضى الضفّة الغربيّة. بالتالى جاء الاعتراف بعد أن أزالت إسرائيل جميع مقوّمات وجود دولة فلسطينيّة ولو بالحدّ الأدنى.

وقد ترافق هذا الاعتراف مع منع الولايات المتحدة رئيس السلطة الفلسطينيّة من الوصول إلى قاعة الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، ومنع الحكومات ذاتها التى أقرّته رفع الأعلام الفلسطينيّة على مبانٍ عامّة، فى حين لا مشكلة فى رفع الأعلام الأوكرانيّة أو الإسرائيليّة تضامنًا. كما أتى اعتراف كثيرٍ من الدول مشروطًا بفتح السفارات واكتماله بإصلاحات يجب أن تقوم بها السلطة الفلسطينيّة المحاصَرة فى مربّعٍ أمنيّ فى رام الله، والتى لا سيادة لها لا على أرض، ولا على النقد، ولا على القانون... هذا غير التبعيّة شبه الكاملة للدولة العبريّة. إقرارٌ بحلّ الدولتين فى حين لم يعُد هناك مجالٌ إلا لدولة واحدة يجب، بالمقابل، أن تُطالَب دوليًّا بخلع ما بات أقسى بكثيرٍ من نظام الفصل العنصريّ (الأبارتهايد) فى جنوب إفريقيا.

• • •

هكذا يمثّل هذا الاعتراف نقطة تحوّل فيما يتعلّق بصلافة سياسات الدول تجاه القضيّة الفلسطينيّة، التى لم تعُد كما كانت قضيّة أخلاقيّة وقضيّة حقوق مركزيّة فى الدبلوماسيّة العالميّة. بل تتهرّب الدول أمام رأيها العام عبر هذا الاعتراف من الالتزام بقرارات محكمة العدل الدوليّة أو من اتخاذ إجراءات عقابيّة ضد إسرائيل وقادتها لإيقاف الجرائم، كما قامت بذلك تجاه دولٍ أخرى جرّاء انتهاكاتها لحقوق الإنسان.

 هذا فى حين أضحت القضيّة الفلسطينيّة بالنسبة لكثيرٍ من الدول العربيّة قضيّةً ثانويّة، بعيدةً وراء ما يُنظَر إليه كمصلحة وطنيّة خاصّة لكلّ دولة فى التعاون مع دولة إسرائيل، وأحيانًا لمواجهة دول عربيّة أخرى. وحتمًا يلعب تماهى سياسات الولايات المتحدة مع سياسات الحكومات الإسرائيليّة، حتّى أكثرها تطرّفًا اليوم، دورًا فى هذا التحوّل. ولا يعيق ذلك أنّ دولة إسرائيل تشعر اليوم بنشوة الإفراط فى القوّة والنفوذ، ولا يهمّها أن تعتدى مباشرةً على دولةٍ خليجيّة، من المفترض أنّها تحت حماية الولايات المتحدة من أى عدوان.

وهذه الصلافة لا تخصّ فلسطين وحدها. إذ بات مشهد العلاقات الدوليّة يتحوّل صراحةً، منذ تولّى الرئيس دونالد ترامب، ويقوله جهارةً مبعوثه توم باراك فيما يخصّ المشرق العربى، إلى منطق «صفقات». إذ بات الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان يغيب تمامًا أمام منطق الصفقات الاستراتيجيّة والاقتصاديّة. والمهمّ هو الحصول على موارد طبيعيّة وأسواق أو قطع الطريق أمام الصعود الاقتصادى العالمى للصين ومشروعها «الحزام والطريق».

لا أسسَ لنظامٍ عالمى، وإنّما هروبٌ إلى الأمام أمام تعدّد الأقطاب الإقليميّة والعالميّة، دون العودة إلى «الإرهاق الاستراتيجى» للولايات المتحدة فى حروبٍ كتلك التى عرفتها فى أفغانستان، هروبٌ نحو إغراق الخصوم وكذلك الحلفاء سويّةً فى صراعاتٍ لا نهاية لها بينهم. ولا ينجو من هذا اللانظام العالمى المتعدّد الأقطاب، لا من يرفض الصفقات فيتعرّض بالتالى لعقوبات قاسية، ولا من يرضى بها، لأنّها فى كلّ الأحوال صفقات آنيّة يُمكِن إلغاؤها أو تغيير مسارها فى أى لحظةٍ لأى سببٍ كان.

• • •

فى هذا السياق لا يهمّ كثيرًا من يحكم الدول أو طبيعة أنظمة الحكم القائمة فيها، استبداديّة كانت أم ديمقراطيّة. علمًا أنّه فى كلّ الأحوال يتمّ إطلاق «مهندسى الفوضى» لتجييش المجتمعات وتوجيهها ضمن لعبة الصفقات والصلافة القائمة.

وهنا يحقّ التساؤل عن سرعة تطبيع الولايات المتحدة والدول الأخرى مع السلطة الجديدة فى سوريا، رغم التوجّهات التى كانت قائمة للتطبيع مع السلطة البائدة قبيل سقوطها. تطبيعٌ رغم إرث هذه السلطة الجديدة خلال الصراع فى العراق أو فى سوريا، ورغم ما حصل بعد استلامها زمام الأمور. أترتبط هذه السرعة بضرورة قلب معادلات المنطقة إلى حين تنفيذ نتنياهو لخطّته فى غزّة ولبنان؟ أهى خدعة استراتيجيّة لإبعاد النظر عمّا يريده نتنياهو من سوريا فى مشروعه للهيمنة على المنطقة؟ إذ إنّه وحده يبقى عصيًّا على عقد أى صفقة معها، مهما كان انتهاكها لسيادة سوريّة بالحدّ الأدنى على أراضيها؟ أم أنّ سرعة التطبيع ترتبط أيضًا بإنهاء أوضاع الحماية للاجئين السوريين فى دول الجوار كما فى أوروبا، دون خلق أيّة أرضيّة لاحتوائهم ببرامج إعادة نهوض اقتصادى وإعادة إعمار؟ فهل يجب على السوريين أن يثقوا بهذا التطبيع مقابل انقسامٍ داخلى يعتريهم لم يسبق له مثيل، وبين فقرٍ ما زال منتشرًا بشكلٍ واسع؟ «نحن نعطيهم فرصة فقط» (!)، كما يوضح ذلك توم باراك. فرصة لماذا؟

كذلك من المنطقى التساؤل عن الأسباب التى دفعت السياسات الدوليّة عمومًا إلى هذه الصفاقة فى أيّامنا؟

• • •

منذ الأزل، المصالح والنفوذ هما اللذان كانا يقودان سياسات التعامل بين الدول. لكنّها كانت تُغلَّف، منذ إنشاء الأمم المتحدة بعد الحرب العالميّة الثانية والحرب الباردة، بشعارات مثل: «دعم حق تقرير المصير»، «مناهضة الإمبرياليّة»، «الدفاع عن الحرية والديمقراطية»، و«حقوق الإنسان». ورغم ذلك لم تتوانَ القوى الكبرى عن إقامة الحروب والعمل على قلب أنظمة الحكم وغير ذلك لخدمة مصالحها. إلا أنّ القيَم وراء تلك الشعارات، والتى كانت تترسّخ شعبيًّا خاصّةً فى أوروبا والولايات المتحدة من جرّاء آلام الحرب الكبرى، قد تراجعت بشكلٍ كبير فى الآونة الأخيرة أمام «الحرب على الإرهاب» - دون تحديد ما هو الإرهاب ــ وضرورة «معاقبة الدول المارقة» ــ مارقة على من؟ ــ وتوجيه سبب المشاكل نحو اللاجئين والمهاجرين ــ العمالة الرخيصة التى يتمّ جلبها ــ واستبدال مرجعيّة الإرث الأخلاقى «اليونانى الرومانى» بمرجعيّة الإرث «المسيحى ــ اليهودى».. وكأنّ إرث الإنسانيّة ليس أكثر ثراءً من ذلك بكثير، وكأنّ إرث الديانات التوحيديّة لم يكُن شراكةً وتفاعلًا بين الإسلام واليهوديّة والمسيحيّة؟!

هكذا لم يعُد مهمًّا أمام الرأى العام الداخلى فى أوروبا وأمريكا التحجّج بالقيَم. قلّةٌ شعبيّة ما زالت متمسّكة بهذه القيَم، تلك التى ترفع علم فلسطين كرمزٍ حتّى لنضالاتها الداخليّة. أمّا الأغلبيّة فتصوّت فى الانتخابات للصلافة، حتّى لو تعدّت هذه الصلافة على حريّات بلادها الداخليّة ذاتها. المهمّ أن تحقّق الريادة العالميّة والعظمة فى وجه عالمٍ خارجى يتمّ إبرازه كفوضى وفرص.

هكذا رافق التحوّل نحو الصلافة الصريحة فى السياسات الدوليّة تحوّلٌ عميق من القيَم نحو الهويّات، ليس فقط فى المشرق العربى، ولكن أيضًا، وخاصّةً، فى الغرب.

لكنّ قمّة الصلافة أن يصف القائمون على سياسات الدول الكبرى المشرق العربى بأنّه يعيش دومًا حرب هويّات «عشائريّة»، وكأنّه لا يدٌ لأجهزة بلادهم، سابقًا واليوم، فى خيانة طموحاته فى الديمقراطية والحرية والعيش بكرامة وسلام؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved