علاقة شاذة
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 28 نوفمبر 2012 - 11:21 ص
بتوقيت القاهرة
كان شرطا ضروريا للسفر إلى الخارج الحصول من جهة العمل على شهادة على ورق أصفر تثبت أننى تابع لهذه الجهة وأنها، أى هذه الجهة، سمحت لى بالسفر. لا أعرف إن كان هذا الشرط معمولا به حتى الآن. ولكنى أعرف وأذكر عمق الإهانة التى كنت أشعر بها كلما رحت إلى مسئول عن الأمن فى جهة العمل أسأله إصدار الشهادة الصفراء. ليس صعبا وصف ما كان يغلب على تفكيرى عندئذ. كم مرة فكرت فى أننى بالنسبة لأجهزة الدولة لست أكثر من مواطن آخر مشكوك فى نواياه ووطنيته ولا يؤتمن على معلومات وأسرار أتيحت له بحكم وظيفته ومستعد دائما لارتكاب عمل شائن ضد الوطن. ما بالك وأن هذا المواطن سيسافر إلى مكان يلتقى فيه أجانب أو مصريين يعيشون فى الخارج يتحدث إليهم ويسمع منهم بدون رقيب وبعيدا عن سمع وبصر سلطات الأمن وغيرها من أجهزة الوصاية.
تذكرت هذه التجربة وغيرها من تجارب أليمة أخرى وأنا أقرأ خبرا بثته وكالة الأنباء الفرنسية من عاصمة دولة عربية كبيرة. جاء فى الخبر ما معناه أن رجلا من أهل البلد كان يستعد للرحيل من المطار عندما حاول رجل الأمن منع زوجته من السفر معه لأنها لا تحمل الشهادة الصفراء الصادرة من الزوج، وهى عبارة عن شريحة الكترونية لا تتحرك المرأة بدونها. يبدو أن الزوج كان يعتقد أن وجوده مع زوجته فى المطار وقد عقدا النية على السفر معا على الطائرة نفسها فى رحلة إلى بلد معين مسجل بوضوح على بطاقتى السفر، قرائن تغنى عن شريحة الكترونية تحملها زوجة بإرادتها وعلمها أو بدون علمها كما يوحى هذا الخبر. لقد حلت الشريحة الالكترونية محل الشهادة الصفراء التى بدونها كان يستحيل على أى من الجنسين السفر الى الخارج.
المغزى واضح ومهين للغاية وهو أن الطرف المهيمن فى العلاقتين يشك فى ولاء الطرف المهيمن عليه وينكر عليه إدعاءه الإخلاص ويستهين به كإنسان له حقوق يتساوى فيها مع بقية البشر فى الدول المتقدمة. هنا لا تختلف النظرة إلى موظف يعمل فى جهاز من أجهزة الدولة مسلوبة حريته ليستمتع بهذا السلب إنسان آخر يعمل فى جهاز الأمن أو غيره من أجهزة السلطة، عن النظرة إلى امرأة مسلوبة الإرادة ولكن خاضعة لإرادة إنسان آخر هو فى هذه الحالة زوج مدعوم من الدولة. الاثنان، الموظف والزوجة، فى نظر الطرف المهيمن، معرضان للسقوط أمام أول وأقل جهد من طرف ثالث لغوايتهما. لا اعتبار أو تقدير فى الحالة الأولى لوطنية الموظف وإخلاصه فى عمله وللقيم التى نشأ عليها، ولا اعتبار أو تقدير فى الحالة الثانية لوفاء الزوجة وحبها لزوجها وتمسكها بالقيم التى نشأت عليها. كلاهما فى نظر المهيمن، ضعيف ومنزوع الإرادة وقابل للإفساد ومختل الشخصية وغير كامل الأهلية، ويتعين على كليهما أن يكونا دائما وأبدا تحت سمع وبصر الطرف المهيمن أو من يمثله.
بمرور السنوات والمرور على ثقافات عديدة فى أقاليم الشمال والجنوب وبالتعايش مع رجال دين ونساك وعلماء لاهوت ومع شعوب لم تدخل عصور الفقه والثقافات المركبة، كدت أتيقن من شكوك ترددت طويلا فى القبول بها. تطرح هذه الشكوك تفسيرا للعلاقة بين طرف مهيمن وطرف مهيمن عليه فى مجتمعات أغلبها متخلف وتجرى مناقشتها فى عديد الدول الناهضة. تيقنت من أنه إلى جانب الافتقار إلى الثقة المتبادلة والنظرة الفوقية من جانب طرف إلى طرف آخر، وغياب الشفافية، لأسباب ثقافية أو دينية أو اجتماعية، بين الطرفين، واستسهال أساليب العنف والقهر وتفضيلها على أساليب الحوار والاقناع والتفاهم، أقول، تأكدت أنه إلى جانب كل هذه الأساليب، توجد الكراهية. أعتقد أن علاقة أجهزة الأمن والدولة بالمواطن فى المجتمعات التسلطية والاستبداد مثلها مثل علاقة الرجل بالمرأة فى المجتمعات الخاضعة لسيطرة رجال الدين وأنصار التخلف الاجتماعى والسياسى، تخضع لحقيقة مؤداها أن الطرف المهيمن يكره الطرف المهيمن عليه.
لا شىء أقوى من الكره يمكن أن يكون حافزا لجهة أو شخص فى وضع الهيمنة ليتعمد إهانة طرف آخر وتقزيم مكانته. الكره للجنس الآخر هو، فى رأيى، المبرر الذى يفسر أكثر من أى مبرر آخر رغبة الرجل فى إخفاء وجوه نسائه وأجسامهن والاستهانة بعقولهن. والكره للمواطنين العاديين هو الذى يفسر أكثر من أى مبرر آخر سلوك أجهزة الأمن وعملائه وموظفيه مع المواطنين.
المسئول الأمنى الكبير الذى يستقبل ضيوفه وزبائنه من المواطنين جالسا ولا يحييهم واقفا ويتعمد أمامهم استخدام العنف الجسدى أو اللفظى ضد أحد المشتبه فيهم هو شخص معبأ قلبه بالكره ضد الآخر. هذا هو حال الرجل عريض المنكبين منتصب الشوارب وربما اللحية، الذى يمشى فى شوارع المدينة، أو فى البادية أو القرية، ووراءه تمشى نساؤه، زوجات وبنات، وقد غطاهن من الرءوس حتى الأقدام، رجل ليس حريصا على سلامة حريمه أو مشفقا عليهن أو غيورا مدفوعا بحب غامر وعشق دافق. هو رجل يكره النساء.
الرجلان متشابهان بل لعلهما رجل واحد بوجهين. وقد قابلت هذا الرجل. عرفت معمر القذافى عن قرب كارها للنساء ومعذبا لهن رغم إحاطة نفسه بهن، وعرفته منذ السبعينيات كارها لشعب ليبيا ومحتقرا له