لا يمكن فهم زيارة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان للسودان ضمن جولته الإفريقية خلال هذا الأسبوع، إلا فى إطار مناكفة مصر ومعاندتها ومحاولة إزعاجها بكل الطرق.
سيقول السودانيون والأتراك إن من حقهم إقامة العلاقات الدبلوماسية مع كل البلدان والتنسيق معها، لصالح الطرفين، وهو أمر بطبيعة الحال صحيح، لكن السياسة لا تعرف الأبيض والأسود، بل الرمادى دائما.
أنصار الأتراك فى مصر والمنطقة، تعاملوا مع زيارة أردوغان للسودان، وكأنها «الفتح المبين» نكاية فى حكومتهم!!.
قرأت لكثيرين من أنصار جماعة الإخوان يهللون للزيارة، خصوصا إعلان أردوغان أن السودان وافق لبلاده على إدارة جزيرة «سواكن» لفترة غير محددة، لإعادة بنائها وتطويرها، وأن هناك ملحقا فى الاتفاقية لن يتم الإعلان عنه!.
هذه الجزيرة تقع بالقرب من الحدود المصرية السودانية. وفى السنوات الماضية فكر أحد كبار المستثمرين المصريين فى تحويلها إلى ما يشبه «الجونة السودانية»، لكن الأمور لم تكتمل. مساحتها تبلغ ٢٠ كيلومترا مربعا، واختارها السلطان العثمانى سليم الأول فى عام ١٥١٧ مقرا لحاكم مديرية الحبشة العثمانية، ورفضت الأستانة ضمها إلى مصر فى عهد محمد على، لكنها قامت بتأجيرها له، ثم تنازلت له عنها مقابل جزية سنوية عام ١٨٦٥.
مرة أخرى لا يمكن لوم الأتراك والسودانيين على إقامة العلاقات أو تعزيزها، ولا يمكن لوم الرئيس السودانى عمر حسن البشير حينما يقول إنه يطمع فى رفع التبادل التجارى بين البلدين إلى عشرة مليارات دولار، وذلك بعد أن تم التوقيع على ٣٣ اتفاقية خلال الزيارة وعلى رأسها إنشاء مجلس للتعاون الاستراتيجى.
لكن اللوم الحقيقى ينبغى أن يذهب لسياسة الرئيس السودانى الذى لا يفعل شيئًا خلال الشهور الماضية، إلا مناكفة مصر.
ليس سرا أن العلاقات الرسمية بين الحكومتين فى القاهرة والخرطوم تمر بواحدة من أسوأ مراحلها، رغم أن الحكومة المصرية لا تريد تصعيد الأمور رسميا وإعلاميا، وأعلم أنها تفضِّل حل الخلافات فى غرف مغلقة.
يعلم الرئيس البشير أن الرئيس التركى يتربص بمصر وحكومتها ورئيسها، ودائم الانتقاد للسياسة المصرية منذ تم خلع جماعة الإخوان عن الحكم بعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وبالتالى، فعندما يستقبله بهذا الشكل، وفى سواكن، فهو يريد أن يبعث للحكوة المصرية برسالة قصيرة مفادها: «لقد جئت لكم بعدوكم الأول قرب حدودكم»!. وتكتمل الصورة حينما يعقد رؤساء أركان تركيا والسودان وقطر لقاء فى الخرطوم مؤخرا!!.
الرسالة نفسها سبق لحكومة الرئيس البشير أن بعثت بها للقاهرة أكثر من مرة خلال العامين الماضيين، خصوصا فى علاقتها مع الحكومة القطرية. بعض الأشقاء فى الخليج تدخلوا لإقناع الحكومة السودانية بعدم التصعيد والتوقف عن المناكفة، لكنها هدأت فقط وعادت للاشتعال أكثر.
ووجدت حكومة البشير نفسها فى موقف صعب أثناء اشتعال الأزمة بين السعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة وبين قطر من جهة اخرى، هى لا تريد أن تغضب الرياض أو الدوحة، بل كانت تحاول اللعب على الورقة الإيرانية، لولا العين الحمراء من السعودية!!.
وزير الخارجية السودانية إبراهيم الغندور دائم التهجم على السياسة المصرية فى الأسابيع الأخيرة بشأن ملفات كثيرة منها حلايب وشلاتين، وآخرها مع نظيره التركى فى الخرطوم حين قال: «إننا نستغرب من رد فعل الإعلام المصرى تجاه زيارة أردوغان، وأن أى تعاون عسكرى مع تركيا أمر وارد فى أى اتفاقيات بين البلدين»!
رغم ذلك، فتقديرى أنه ينبغى علينا فى مصر أن نبذل جميع الجهود من أجل عدم خسارة السودان الذى يظل البلد الأقرب إلى مصر عربيا وإسلاميا، ومصالحنا الاستراتيجية معه متعددة. ليس من الحكمة أن نسلِّم السودان على طبق من ذهب لإثيوبيا أو تركيا أو قطر، أو الميليشيات الليبية الإرهابية.
كيف يمكن تحقيق ذلك.. تلك هى المعضلة؟!