والكلمة الفائزة بكلمة العام فى 2022 هى...

محمود محي الدين
محمود محي الدين

آخر تحديث: الأربعاء 28 ديسمبر 2022 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

على طريقة إعلان الفائزين بجوائز الأوسكار، أقدم لكم الكلمة التى كانت أكثر الكلمات الجديدة تعبيرا عن الأوضاع فى عام 2022، والكلمة هى «بيرماكرايسيس» ومعناها «الأزمة المستمرة». وهى كلمة مدمجة بجمع كلمتين باللغة الإنجليزية «بيرمينانت» كصفة تعنى الاستمرار و«كرايسيس» بمعنى أزمة. وقد اعتبرها خبراء اللغة والمعاجم بمؤسسة «كولينز» التى تصدر القاموس الشهير بأنها الأكثر توضيحا وإيجازا لمعاناة الناس مع ما شهدته هذه السنة من فظائع. وقد شاع استخدام هذه الكلمة الجديدة فى وصف ما يعترض العالم من صدمات، ووجد فيها المعلقون على أحداث عام 2022 ضالتهم بتلخيصها المجمع لمشاهده الكبرى. فقد تصدرت هذه الكلمة المقال الافتتاحى للإصدار السنوى لمجلة «الإكونوميست» البريطانية عن أحداث العام الذى تعرض لثلاث صدمات أربكت العالم، وهى الحرب الأوكرانية، وأزمة الطاقة، والتضخم العالمى فى الأسعار خاصة الطعام والوقود، كما جعلتها مجلة «سبيكتاتور» عنوان طبعتها الدولية عن تداعيات هذه الأزمة المستمرة التى داهمت العالم بعد سنتين من المعاناة مع أزمة الجائحة.
فمع نهاية سنة 2021 تطلع الناس لأن تأتى سنة جديدة بعدها حاملة ما يغاثون به. وعقد الاقتصاديون مقارنات بين عشرينيات هذا القرن وعشرينيات القرن العشرين التى شهدت انتعاشا أعقب نهاية الحرب العالمية الأولى وجائحة الإنفلونزا الإسبانية التى قتلت فى الفترة من 1918 حتى ١٩٢٠ ما يقدر بنحو 50 مليون إنسان من إجمالى سكان العالم حينها الذى لم يتعد مليارَى نسمة، بما يتضاءل بجانبها ما ألحقته جائحة كورونا من أذى؛ إذ تسببت فى موت 6.7 مليون إنسان من 8 مليارات نسمة تقريبا يعيشون فى عالم اليوم.
وأسوأ الأزمات حتما هى ما تأتى فجأة بأوجه متعددة متشابكة، خاصة بعدما منَّى الناس أنفسهم بعهد من التطلعات المتفائلة. فبعد حديث مقتضب فى بداية العام عن انتعاش اقتصادى مأمول وأشكال التعافى من تداعيات جائحة كورونا ومتحوراتها، جاءت حرب فى شهر فبراير (شباط) لم تشهدها أوروبا على أرضها منذ الحرب العالمية الثانية. كما أدت السياسات الاقتصادية للبلدان المتقدمة، وخاصة الولايات المتحدة إلى انفلات فى التضخم المحلى والعالمى بزيادة السيولة النقدية بموجة إصدارات للنقود الرخيصة أثناء عامى الجائحة. ثم ترددت البنوك المركزية للبلدان المتقدمة فى التصدى للتضخم الناجم عن النقود الرخيصة وفائض السيولة النقدية عليها مع بداية عودة الناس لحياتهم الطبيعية، وتعثرت فى علاج مشكلة سلاسل الإمداد للتجارة الدولية. وفى محاولة لتدارك الخطأ الجسيم بعدم التصدى المبكر للتضخم، الذى لم تشهد مثله منذ أربعين عاما، سارعت البنوك المركزية الرئيسية بما فى ذلك البنك الفيدرالى الأمريكى برفع غير مسبوق فى سرعته لأسعار الفائدة فتراجعت أسواق المال خاسرة فى أسابيع ما جمعته فى سنين، وارتفعت تكلفة الاستثمار وتراجعت أسعار العقارات فى البلدان المتقدمة، وتوالت الأنباء عن تعثر سداد بلدان نامية لديونها مع زيادة الغلاء فيها، وأمسى العالم مثقلا بموجات من الركود التضخمى تتفاوت حدتها بين الدول.
وذكرت آن كروجر، الاقتصادية الأمريكية الشهيرة، أن العالم متورط فى خمس أزمات كبرى تشمل تداعيات جائحة كورونا، والحرب فى أوكرانيا، والتضخم المرتفع، والتخوفات من الركود، وتحديات الديون فى البلدان النامية والأسواق الناشئة، ثم أضافت لها سادسة بحكم خبرتها فى اقتصاديات التجارة الدولية وهى الحروب التجارية! هذه الحروب الوشيكة ستسببها الولايات المتحدة باتباعها الإجراءات الحمائية الموروثة منذ إدارة الرئيس السابق ترمب وما أضافته إدارة الرئيس بايدن من إجراءات متعلقة بمبادرات اتخذتها هذا العام مثل قانون تخفيض التضخم وقانون الرقائق الإلكترونية. فهذه الإجراءات الحمائية تزيد الدعم لصالح المنتجات المحلية، ولكن آثارها النهائية سيئة إذا ترتب عليها معاملات بالمثل من الشركات التجاريين فى الصين وأوروبا، وستفتح المجال لحرب تجارية تضر بمكونات الصناعات وتنافسيتها وتزيد من الأعباء فى النهاية على المستهلكين.
رغم اختلافات معروفة بين ترمب وبايدن، فإن سياستيهما اشتركتا فى إجراءات حمائية قد تتمتع بشعبوية الأجل القصير، ولكن سيكون لها ذات المآلات التى انتهت إليها سياسات مماثلة حظيت بتأييد مؤقت لدغدغتها عواطف المستهدفين بها ثم تذهب السكرة وتأتى العبرة محملة بضياع الموارد العامة ورفع تكاليف الإنتاج الفعلية وتحميلها على دافعى الضرائب وتراجع التنافسية. ومن المتعارف أن مثل هذه الإجراءات الشعبوية لها مريدوها المهووسون بها وإذا ذُكّروا بثبوت فشلها عللوا لها بالأسباب جميع وزكّوها بحجج بكلمات رنانة عن أهمية مقاصدها، ولكن معترك الاقتصاد لا يعبأ بدعاوى متهافتة، فلا يفوز فيه فى النهاية من طارد أوهاما أو انتهك قوانينه وسننه التى تقدمت بها الأمم. وهو ما حدا بالاقتصادى الأمريكى براد ديلونج أن يذكر فى كتابه الأخير عن التاريخ الاقتصادى للقرن العشرين بنهاية فعلية للسيطرة الأمريكية مع حلفائها على الاقتصاد العالمى على مدى الفترة من 1870 باعتمادها على تنافسية تعتمد على السبق التكنولوجى حتى عام 2010 الذى أعقب الأزمة المالية العالمية وارتباك الدول الغربية فى التعامل معها بما اعتبره كاتب هذه السطور بداية النهاية للنظام الاقتصادى العالمى المتعارف عليه منذ الحرب العالمية الثانية.
قد ترى، عن حق، أن ما تم استعراضه حتى الآن غير شامل للمخاطر والأزمات المتواترة كافة؛ فالبعد المحلى والبيئة التى يعيش فيها القارئ يؤثران حتما على تصنيفه للأزمات والمخاطر، ونبحث هنا عما قد يكون مشتركا بين مختلف البلدان. فما هى القائمة الأكثر شمولا لتعين فى التعامل مع ظاهرة الأزمة المستمرة؟ من التقارير التى تتمتع بقدر نسبى من الدقة فى متابعة المستجدات عن المخاطر ومستقبلها ما تصدره مؤسسة «أكسا» للتأمين بالمشاركة مع مجموعة «يوراسيا»، وهى تعتمد على مسوح واستقصاءات لرأى الخبراء حول أرجاء العالم. وفى هذا العام اعتمدت فى ترتيب المخاطر على استطلاع رأى 4500 من خبراء المخاطر من 58 دولة، بالإضافة إلى عينة من عشرين ألف شخص من 15 دولة بالتعاون مع معهد «إيبسوس» للأبحاث.
وقد جاء تصنيفها للمخاطر فى هذا العالم على النحو التالى:
1ــ تغيرات المناخ
2ــ الاضطرابات الجيوسياسية
3ــ مخاطر الأمن السيبرانى
4ــ تحديات الطاقة
5ــ الأوبئة والأمراض المعدية
6ــ التوترات الاجتماعية
7ــ مخاطر على الموارد الطبيعية والتنوع البيئى
8ــ مخاطر مالية
9ــ مخاطر الاقتصاد الكلى
10ــ مخاطر السياسات النقدية والمالية
وقد احتلت تغيرات المناخ المرتبة الأولى فى مقدمة المخاطر منذ عام 2018 باستثناء عام الجائحة 2020، ثم عادت مخاطر تغيرات المناخ للصدارة على المستوى العالمى. ففى تقرير العام الماضى (2021) كانت المخاطر الخمسة الأولى على الترتيب، هى: تغيرات المناخ، ثم أمن المعلومات أو الأمن السيبرانى، والجوائح والأمراض المعدية، والمخاطر الجيوسياسية، ومخاطر التذمر الاجتماعى ونشوب صراعات داخلية. أى أن التغيير قد طرأ بسبب الحرب الأوكرانية وتداعياتها فرفعت من مرتبة المخاطر الجيوسياسية فجعلتها فى المرتبة الثانية ودفعت بمخاطر الطاقة إلى المرتبة الرابعة، هذا مع قدر من التفاوت فى الترتيب بين الأقاليم المختلفة حول العالم.
وعلينا على مستوى كل دولة أن نأخذ من هذه التقارير ونترك وفقا للمعطيات المحلية وأولوياتها، لا ننجذب لأى منها انحيازا حتى إذا ساق أصحابها ما يدعو للثقة فى توقعات تقاريرهم عن المستقبل، فنحن فى عالم شديد التغير، تكثر فيه البيانات وتندر فيه المعلومات المدققة وتُحتكر فيه المعرفة وتكاد تغيب عنه الحكمة فى استخدامها.
ولكن ما لا يستفاد منه كله يجب ألا يهدر جله. فيجب الاعتماد على مصادر متعددة للاستشراف للتوقى من المخاطر فى عالم تكتنفه أزمة مستمرة ترسم واقعا جديدا يجعل من عملية رسم السياسات وإدارة المؤسسات حالة دائمة من إدارة الأزمات. ويمكن التعرف بيسر على إمكانيات الاستفادة من الأزمات فى الإصلاح والتطوير واكتساب مراكز متقدمة فى العالم الجديد، فالأزمات ما هى إلا معابر من واقع قديم إلى واقع جديد. ولهذا؛ أعجب من متخوف فى البلدان النامية على مصير النظام الدولى القائم الذى لم تستفد بلداننا منه إلا الفتات مما يفيض عن الأغنياء المهيمنين فيه من خلال قنوات التجارة وبعض الاستثمارات وتحويلات المهاجرين، وما قد يقدم من منح وهبات.
هذا نظام دولى أوشك على نهاياته ومن المراقبين مَن يرى أن نهايته قد حلت بالفعل ولكن لم يعلنها النعاة بعد. نحن فى إطار ترتيبات جديدة لنظام جديد لم يسفر عن معالمه وقواعده بعد، وحتى يحين زمنه بقواه الجديدة وقواعد ألعابه السياسية والاقتصادية تسير الأمور ببقايا متوارثة قانونا وعرفا من النظام الدولى الذى سيصير بائدا وفى ذمة التاريخ كما جرى لنظم سابقة عليه. ما نرجوه أن يكون النظام الجديد أكثر عدلا وكفاءة من سابقه والأهم أن يكون لبلداننا فيه ما يليق بها. ولن تأتى لها جدارة السبق إلا بالهمة فى الاستثمار فى أهم مواردها وأرفع أصولها وأقيم ما لديها وهم البشر. هكذا فعل أهل الشرق فى الصين وما حولها الذين يتجه نحوهم المركز العالمى للجاذبية الاقتصادية. قد يكون من أسباب التخوف أن عملية الانتقال من نظام إلى نظام لا يعلم أحد مداها الزمنى وملابسات انتقالها سواء سلما أو حربا، وأن هناك خسائر ومكاسب محتملة، وضحايا وفائزين، وحلفاء وأعداء جددا؛ وهو ما يستوجب إيضاحه فى مقال قادم عن سبل إعداد العدة للتعامل مع التحديات وزيادة فرص التقدم فى سباق الأمم رغم المربكات من أزمات وإن أطلق عليها «بيرماكرايسيس».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved