النساء فى مواجهة الهيمنة على الفضاء العام

مواقع عربية
مواقع عربية

آخر تحديث: الأربعاء 29 يناير 2025 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

على مدار عقود، وبصورة خاصة فى السنوات الخمس عشرة الأخيرة، خاضت النساء فى سوريا معارك صعبة لنيل حقوقهن السياسية والمدنية. لكن مع كل خطوة إلى الأمام، تظهر موجات جديدة تسعى لإعادة النساء إلى المربع صفر، فيصبح النقاش محصورا فى قضايا اللباس والمظاهر الخارجية. من بين هذه الممارسات، ما صنفته الإدارة الجديدة على أنه «تصرفات فردية»، مثل حملات دعوية تمثّلت بتعليق منشورات إرشادية فى الشوارع تحدد اللباس الشرعى للنساء، وإجراء حملات دعوية ميدانية تتضمن توزيع ألبسة إسلامية على النساء. قوبلت هذه الحملات بمنشورات مضادة تشدد على حرية اللباس للنساء، بمختلف أشكاله.

 


فى خضم هذا المشهد، يبرز سؤال محورى: هل علينا الاستجابة لهذه الموجات التقييدية والانخراط فى معركة الرد عليها؟ أم يجب الترفع عنها والمضى قدما من حيث وصلنا فى النضال النسوى؟ النقاش هنا لا يدور فقط حول طبيعة الرد، بل حول جدواه فى ظل المشهد السياسى والاجتماعى الحالى. فالانجرار إلى هذا النوع من الجدالات قد يعيد صرف الأنظار عن قضايا المساواة السياسية والاقتصادية. فى المقابل، تجاهل هذه التصرفات قد يُفسر كتخاذل أمام محاولات تقويض مكتسبات حققتها النساء بجهود نضالية طويلة، وتكون فاتورته باهظة على المدى الأبعد.
• • •
تُظهر السياسات والتصريحات الأخيرة للحكومة الجديدة فى سوريا، توجها واضحا نحو إعادة هيكلة أدوار النساء فى المجتمع ضمن إطار تقليدى، يُعيد تأكيد ما يجرى تقديمه بوصفه «الفطرة الطبيعية» للمرأة. فى هذا الإطار، شكّلت تصريحات عائشة الدبس مديرة مكتب شئون المرأة، وعبيدة أرناءوط المتحدث باسم الإدارة السياسية التابعة لإدارة العمليات العسكرية فى سوريا، مؤشرا أوضح على هذا التوجه. أكدت الدبس ضرورة أن «تتبنى المنظمات النسوية النموذج الذى تسعى الإدارة الجديدة إلى بنائه»، مشيرةً إلى أن «الاختلاف الفكرى غير مرحب به» معها، مركزةً على دور المرأة «الفطرى» داخل الأسرة. من جانبه، صرح أرناءوط أن «طبيعة المرأة النفسية والبيولوجية لا تتناسب مع مناصب قيادية مثل وزارة الدفاع»، مما يعكس رؤية تمييزية تُقصى النساء عن الأدوار القيادية.
أما على صعيد السياسات التى تعكس هذا الخطاب، فقد جاءت تعديلات المناهج الدراسية لتلغى شخصيات تاريخية نسائية بارزة مثل الملكة زنوبيا وتهمّش المحتوى الفلسفى، وبرروا هذا التعديل بأنه حذف من مناهج الديانة الإسلامية فقط. إضافة إلى ذلك، انعكست هذه الرؤية فى حالات الفصل الجنسين داخل وسائل النقل العام، وهو إجراء يهدف ــ وفقا للتبريرات غير الرسمية ــ إلى فرض معايير اجتماعية جديدة ترتكز على تقاليد الفصل بين الجنسين. ولعل الإشارة الأكثر وضوحا تتمثل فى تعيين شادى الويسى وزيرا للعدل فى الحكومة المؤقتة، وعدم التراجع عن هذا التعيين، أو حتى إصدار توضيح حول إشرافه على عمليات إعدام لنساء بتهم «الإفساد والدعارة»، موثقة بالفيديو ومنتشرة على نطاق واسع.
برغم وضوح التوجهات التقليدية للإدارة السورية الجديدة فى ما يتعلق بالنساء، إلا أن هناك تخبطًا ملحوظًا وتراجعًا عن بعض التصريحات والإجراءات، يعكس عدم استقرار هذا الخطاب. يبدو أن جزءًا من هذا التراجع يعود إلى ضغط الاحتجاجات الشعبية والنسوية، التى رفضت السياسات التقييدية وحاولت التصدى لمحاولات تقليص حقوق النساء.
صرح العديد من الفاعلين الدوليين بأنهم سيراقبون سياسات الإدارة وأقوالها، مؤكدين أن منح الشرعية للإدارة الجديدة سيكون مشروطًا جزئيًا بالالتزام بالمساواة بين الجنسين وضمان حقوق النساء. هذا التوازن بين الضغوط الداخلية والخارجية يضع الإدارة فى موقف غير مستقر، حيث تبدو سياساتها مترددة ومجزأة، مما يثير تساؤلات حول جدية التزامها بتعزيز المساواة، ومدى قدرتها على تقديم رؤية تنموية شاملة وعادلة تراعى حقوق النساء ضمن عملية بناء مستقبل البلاد.
• • •
تعكس مسألة «مناشير اللباس»، التى أُطلق عليها بسخرية «حرب المناشير»، بُعدًا أعمق يتعلق بالصراع على هوية الفضاء العام فى مرحلة ما بعد النزاع. المناشير هنا أداة مقاومة سلمية تعبّر عن محاولات استعادة هذا الفضاء كمنصة للتعددية والتنوع، فى مواجهة مساعٍ لفرض أيديولوجيا واحدة تُرسم بأدوات القوة. هذا الشكل من النضال السلمى يكشف عن إدراك لأهمية الرموز والدلالات البصرية فى تشكيل الوعى الجمعى، وإعادة تعريف علاقة المواطنين ببيئتهم العامة، خاصة فى مجتمعات تسعى للخروج من سنوات طويلة من الهيمنة العسكرية أو الأيديولوجية.
ما يجعل هذا الصراع أكثر تعقيدًا هو أن المناشير بدايةً، جاءت من شعور بالدعم من جهات مسلحة تدّعى شرعية دينية وسياسية، حتى وإن لم يكن دعمًا معلنًا. وهو ما يُبرز أزمة غياب العدالة الانتقالية وآليات الديمقراطية فى إدارة المرحلة الحالية. فضاء الشارع، الذى من المفترض أن يكون مساحة للتعبير الحر والتفاعل الاجتماعى، يتحول إلى ميدان لإعادة إنتاج الهيمنة، حيث تُستخدم أدوات ظاهرها بسيط كالمناشير والملصقات، لتثبيت سلطة جديدة تدّعى أحقيتها بإعادة تشكيل المجتمع وفق رؤيتها الأحادية.
النضال السلمى وأدواته التقليدية، مثل المناشير والملصقات والشعارات فى الفضاء العام، يحملان أهمية مزدوجة؛ رمزية وعملية. على المستوى الرمزى، يعبّر النضال السلمى عن قوة الموقف الأخلاقى؛ حيث يواجه القمع والتسلط من دون اللجوء إلى العنف، مما يجعله أداة شرعية تتحدى سرديات السلطة التى غالبًا ما تُبرر إجراءاتها بذريعة حفظ الأمن أو مكافحة التمرد. هذه الأدوات التقليدية تكفل قدرة الأفراد والجماعات على إيصال أصواتهم والاحتفاظ بحيز من السيطرة على واقعهم، حتى فى ظل اختلال موازين القوة.
أما على المستوى العملى، فإن هذه الأدوات تمتلك فعالية كبيرة فى خلق مساحات تفاعلية ومفتوحة للتعبير والتواصل داخل المجتمعات، خاصة تلك التى تعانى من القمع أو التقييد السياسى. المناشير والملصقات، برغم بساطتها، تُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والفضاء العام، بجعل الجدران والأسطح الرمزية وسيلة لإعادة بناء هوية جماعية مقاومة. فى بيئات ما بعد النزاع، تصبح هذه الأدوات التقليدية بمثابة بذور لخلق وعى مجتمعى جديد، يُقاوم محاولات الهيمنة ويفتح المجال لنقاشات حول التعددية والحقوق والمساواة.
• • •
لم أستغرب مقابلة المنشورات المضادة التى تدافع عن حرية اللباس برفض من فئة اعتادت التقليل من أهمية هذه القضايا، معتبرةً إياها هامشية وغير مركزية، بل ربما محاولة لحرف النظر عن القضايا الكبرى. لكن هذا المنطق يتجاهل حقيقة أن السكوت ليس خياراً فى مواجهة محاولات فرض الهيمنة حتى على التفاصيل اليومية. ويعكس تجاهلاً عميقًا للتشابك بين ما يُعتبر «صغيرًا» أو «رمزيًا» وبين القضايا الكبرى التى تتعلق بالحريات والعدالة. حرية اللباس ليست معزولة عن نضال أشمل يتناول سيطرة السلطة على أجساد الأفراد واختياراتهم اليومية، فهى جزء من مقاومة تسعى لاستعادة الحق فى تقرير المصير الشخصى، الذى يُعتبر فى قلب أى مشروع تحررى أو ديمقراطى.
لا يمكن فصل هذه القضية عن الحقوق السياسية والاجتماعية، إذ إنها تكشف البنية الثقافية والفكرية للأنظمة القمعية، السياسية والمجتمعية، التى تستخدم التفاصيل اليومية أداةً للهيمنة. الدفاع عن حرية اللباس لا يحرف النظر عن القضايا الكبرى، إذ إنه يعزز الفهم العميق للرابط بين التفاصيل اليومية والمعركة الأوسع من أجل الحرية والتحرر.
من المهم أن نشير هنا إلى أن النضال من أجل الحرية والعدالة ليس مسارًا أحاديًا، إنما شبكة من القضايا التى تتطلب توازى المسارات لتحقيق تغيير جذرى ومستدام. تتداخل اليوم فى سوريا القضايا السياسية، الاجتماعية، والثقافية بشكل يجعل من المستحيل حل إحداها بمعزل عن الأخرى. هنا، يصبح العمل ضمن مسارات متعددة أمرًا حتميًا وضرورة عملية، حيث تركز كل مجموعة على جانب محدد، لكن هذه التعددية فى الجبهات تحتاج إلى تنسيق وثيق يضمن ألا تتحول إلى تشتت أو تضارب فى الأهداف.
ما يجعل هذا النموذج فعّالاً هو إدراك أن كل قضية، مهما بدت صغيرة أو رمزية، هى جزء لا يتجزأ من منظومة النضال الأكبر. الدفاع عن حرية اللباس، على سبيل المثال، لا يتعلق فقط برفض الهيمنة على أجساد النساء، بل يرتبط بشكل أعمق بمعركة استعادة الفضاء العام كمساحة للتعددية والاختلاف.
الجدران التى تحولت إلى لوحات إرشادية تُحدد ما يجب أن ترتديه النساء، أصبحت ساحة للصراع على معنى الفضاء العام ومعايير الحرية.
هذا الاشتباك لا يكشف فقط عن معركة على التفاصيل اليومية، بل يوضح أن الانتقال الديمقراطى فى سوريا يمكن أن يبدأ من هنا، من جدران تصر على أن تكون شاهدة على الحرية، لا أدوات للقمع.

 

فرح يوسف

موقع درج
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/yac8k5mx

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved