عفريت فرانكنشتاين!
أكرم السيسى
آخر تحديث:
الخميس 29 فبراير 2024 - 7:10 م
بتوقيت القاهرة
شرعت الأديبة الإنجليزية مارى شيلى Mary Shelley (1797ــ1851) فى كتابة روايتها الأولى الموسومة فرانكنشتاين أو إله النار الجديدFrankenstein or The modern Prometheus فى 1818، وكان عمرها ثمانية عشر عاما، والرواية تنتمى إلى نوع من الأدب يجمع بين الخيال والرعب والموت والرومانسية فى بعض الأحيان، ويسمى بالأدب القوطى، وتعد هذه الرواية مثالا لروايات الخيال العلمى، وكان لها تأثير كبير فى الأدب والثقافة الشعبية؛ وتحكى الرواية قصة طبيب عالم شاب يدعى فيكتور فرانكنشتاين يؤمن بأن الكهرباء مصدر الحياة، وأنها من يشكل الفرق بين الجسد الحى والميت، وقد تحققت نسبيا هذه النظرية لاحقا عندما استخدم التيار الكهربائى فى إعادة خفقان القلب لمن دخلوا فى طور الوفاة، وبناء على هذه القناعة قرر الطبيب العالم أن يصنع مخلوقا عاقلا بواسطة الكهرباء يصبح وحشا فى تجربة علمية فريدة وغير تقليدية!
• • •
من حق القارئة أو القارئ أن يطرح سؤالا: ما مناسبة الحديث عن رواية فرانكنشتاين اليوم؟ وأما نحن فنسأل سؤالا ثانيا: لماذا ألفت مارى شيلى هذه الرواية؟
حقيقة فى الإجابة عن السؤالين علاقة وثيقة سيتبين من خلالهما فحوى ومقصد هذا المقال.
فعن سبب تناول الحديث عن هذه الرواية فى الحاضر أنها تعبر بشكل مجازى ودقيق عن الأحداث المريرة التى تمر بها منطقتنا العربية، وتحديدا فى غزة، وهذا ما سنقوم بشرحه لاحقا.
وأما الإجابة عن سؤالنا الثانى الذى طرحناه والمتعلق بدوافع شيلى لتأليف هذه الرواية فهناك سببان؛ الأول أن الرواية أتاحت لها فرصة التعبير عن مخاوفها من الخراب الذى يمكن أن يحدثه اختراع الكهرباء فى 1752، وما أدى إلى الثورة الصناعية التى بدأت فى بريطانيا فى ستينيات القرن الثامن عشر؛ أدركت شيلى أن التكنولوجيا تقدمت بمعدل سريع أصاب ذهن قراء أوائل القرن التاسع عشر بالدوار، فكشفت بهذه الرواية عن قلقها إزاء التقدم الذى حققه الإنسان لأنه يحاول استخدامه فى وجه العناصر الطبيعية والخطط الإلهية، كما أنها صاغت روايتها بطريقة تلفت الانتباه إلى الاهتمام بالفقراء، وغير المتعلمين كموضوع رئيسى فى جميع أنحاء الرواية، متأثرة بمبادئ الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان (1789). والسبب الثانى أنها عندما سافرت إلى جنيف فى سويسرا ــ حيث تأخذ معظم القصة مجرياتها ــ كان موضوع الكلفانية Calvinism (مذهب مسيحى بروتستانتى إصلاحى فى القرن السادس عشر) وكذلك الأفكار الخفية من أهم الموضوعات التى تتحدث بها مع رفاقها، ولا سيما عشيقها الشاعر الإنجليزى الشهير بيرسى شيلى الذى أصبح زوجها فيما بعد. فذات مساء، قررت مارى مع بيرسى وأصدقائهما إقامة منافسة لمعرفة من الذى يمكنه كتابة أفضل قصة رعب، حينها تذكرت مارى كابوسا رأته فى طفولتها كان أكثر تخويفا مما قاله كل أصدقائها، فقد رأت جثثا ممزقة تتجمع وتلتصق ببعضها حتى تركب منها مسخ عملاق راح يفتك بالبشر، وقد استطردت فى التفاصيل حتى أفزعت الأصدقاء جميعا، وعندما انتهت نصحها الجميع بكتابتها كرواية!
• • •
يدور محور الرواية حول فكرة أن الكهرباء سر الحياة؛ فتحكى قصة عالم سويسرى اسمه فرانكنشتاين يصنع شخصا من أشلاء متفرقة من جثث الموتى، وبعد أن جمع كل أجزاء جسم الإنسان أوصلها بالكهرباء، فدبت فيها الحياة، ولكن الناتج كان فى منتهى البشاعة، فلقد استطاع خلق «كيان» مسْخ فى صورة وحش يتمتع بصفات الإنسان كافة، ولكنه يتجاوزها فى قوته وكراهيته للإنسان، خاصة كراهيته لصانعه (فرانكنشتاين)، وقد أدت هذه الكراهية إلى هلاك الصانع والمصنوع فى آخر المطاف.
لم يستطع فرانكنشتاين السيطرة على صنيعته، فحاول قتله لأنه قتل أخيه، ولكنه لم ينجح، بل حدث العكس أن هذا الوحش/المسخ هو الذى استطاع قتل صانعه، وفى النهاية فعل الوحش/المسخ بالضبط ما قام به الإله بروميثيوس (إله النار) العملاق الذى حارب فى صف الآلهة الأولمبية ضد العمالقة فى الحرب العظمى، فقد كان ذا حنكة ودهاء ومحببا للبشر دونا عن الآلهة، إلا أنه ألقى بنفسه فى نار مشتعلة كملجأ أخير بسبب شعوره بالعار، وتعتبر قصته من أهم القصص فى الميثولوجيا الغربية، وترمز لمضامين ودلالات هائلة فى الفكر والتاريخ الغربى!
• • •
فى الحقيقة، هذه ليست قصة رعب للتسلية فحسب، بل تتضمن مدلولات رمزية عميقة الجذور؛ إذ يمكن النظر إلى هذا المخلوق الغريب الذى صنعه فرانكنشتاين على أنه إبليس وبروميثيوس والمتمرد عموما؛ إنها نقيض أسطورة بجماليون الذى عشق تمثال المرأة الذى نحته، والقصة تبحث أيضا فى موضوعات أصل الشر والإرادة الحرة وخروج المخلوق عن طاعة الخالق.
وعلى الرغم من أن رواية فرانكنشتاين لمارى شيلى مقنعة فى حد ذاتها، إلا أنها تعمل أيضا على مستويات رمزية عديدة ومتنوعة، حيث إن وحش فرانكنشتاين يرمز ــ من وجهة نظر شيلى ــ إلى الخراب الذى ستحدثه الثورة الصناعية بسبب اختراع الكهرباء؛ وهذا ينطبق بشكل عام على كل ما يمكن أن يحدثه أى «كيان» غريب يصنعه الإنسان، متحديا به قوانين الطبيعة أو مخالفا للمنطق أو متناقضا مع الحق والحقيقة مثل «الكيان» الصهيونى!
وهنا تأتى الإجابة على سؤال القارئ أو القارئة الذى ذكرناه سابقا عن سبب تناول هذه الرواية الآن؛ فمازالت رموز وحش فرانكنشتاين تعطى إشاراتها وتفسيراتها المتنوعة حتى يومنا هذا، ويعد أكبر دليل على ذلك تاريخ نشأة إسرائيل، هذا الكيان الذى صنعه وزير خارجية المملكة المتحدة آرثر بلفور، ومعروف بوعد بلفور، والذى أرسله فى 2 نوفمبر عام 1917 إلى اللورد ليونيل دى روتشيلد، أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودى البريطانى، وذلك لنقلها إلى الاتحاد الصهيونى لبريطانيا العظمى وأيرلندا، ونصه: «تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التى تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة فى فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسى الذى يتمتع به اليهود فى أى بلد آخر»، وقد اعتبر هذا الوعد عطاء من لا يملك لمن لا يستحق!
بهذا الوعد استطاع هذا الكيان الصهيونى غير الشرعى (إسرائيل) أن يصبح فيما بعد وحشا/ماسخا تتطابق مواصفاته مع الوحش/الماسخ الذى صنعه فرانكنشتاين، والذى اصطلح على تسميته بـ«عفريت فرانكنشتاين»، فقد ولد كارها لنفسه وللآخرين بمن فيهم من صنعوه، بل متمردا عليهم جميعا، وما يميز تطابق الكيانين الماسخين والمصنوعين بأياد بشرية أنهما يخالفان الطبيعة السوية، ويعاديان الحق والحقيقة، ويؤصلان للفساد والظلم.
إن تاريخ ما فعلته إسرائيل على مدى أكثر من سبعين عاما فى فلسطين بداية من نكبة 1948، ومذابح دير ياسين وعمليات التهجير المستمرة وإقامة المستوطنات غير الشرعية دليل قاطع على تمرد الكيان الصهيونى على القوانين التى شرعتها دول الغرب التى صنعته ودعمته بكل قوة حتى يومنا هذا، فمن الواضح أن دول الغرب وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا.. يخشون إسرائيل التى أصبحت متمردة عليهم، ويعملون دائما على مجاملتها وحمايتها رغم خرقها كل القوانين الدولية والإنسانية، وفى سابقة تتعارض مع قيم الديمقراطية فى الغرب، منعت هذه الدول خروج شعوبها للتظاهر للتعبير عن معارضتها للمذابح والإبادة الجماعية وتجويع الشعب الفلسطينى الأعزل، وذلك خوفا منها، والأدهى من ذلك أنها تنفذ لها كل طلباتها حتى وإن تعارضت مع المنطق والقانون والإنسانية، ولعل أكبر شاهد على ذلك اتخاذ كل دول الغرب قرار وقف معوناتها للأونروا؛ قرار اتخذ فى يوم واحد وتم تنفيذه فى نفس اليوم فى وقت يعانى فيه شعب غزة المجاعة والانهيار!
من ناحية أخرى، يستخدم اسم «فرانكنشتاين» منذ نشر الرواية ــ فى كثير من الأحيان ــ للإشارة إلى الوحش نفسه، ويعتبر هذا الاستخدام خاطئا، لأن اسم «فرانكنشتاين» مرتبط فى الرواية بالطبيب العالم السويسرى صانع الوحش، وأما الوحش فى الرواية فيتم تعريفه بكلمات مثل (المخلوق)، (الوحش)، (الشيطان)، (الحقير)، (الخرافة) أو «عفريت فرانكنشتاين»!
• • •
من الواضح أن هذا الوحش/الماسخ يرمز هذه الأيام للكيان الصهيونى ــ صنيعة الغرب ــ الذى يتمرد الآن على صانعيه جميعا، ويكسر كل قوانينهم، ويفضح معاييرهم المزدوجة، والذى حتما سيلقى مصير بروميثيوس (إله النار)، فيلقى بنفسه فى النار بعد أن يقضى على فكر صانعيه وادعاءاتهم بنشر الحرية والسلام والديمقراطية!
إنها حقا إسرائيل النسخة الجديدة لـ«عفريت فرانكنشتاين» أو بروميثيوس (إله النار) الجديد!