نشرت صحيفة هاآرتس مقالا للكاتب يوسى أميتاى، تحدث فيه عن المثقف المصرى الماركسى محمد سيد أحمد مركزا على أبرز أفكاره تجاه الصراع العربى ــ الإسرائيلى والتى عرضها فى كتابه الذى هز المجتمع الفكرى فى مصر والعالم العربى تحت عنوان «بعد أن تسكت المدافع»... نعرض منه ما يلى. «درست الهندسة والقانون ولم أمارس أى منهما. اعتقدت أننى سأكرس حياتى لموضوع الاشتراكية مقابل الرأسمالية، واكتشفت فى النهاية أننى استهلكت حياتى فى دوامة الصراع العربى الإسرائيلى». هكذا لخص محمد سيد أحمد، المثقف الماركسى المصرى الذى توفى قبل 15 عامًا، حياته فى مقابلة قبل وقت قريب من وفاته.
ذاع صيت محمد سيد أحمد كمفكر سياسى فى المقام الأول من كتابه «بعد أن تسكت المدافع»، الذى نُشر فى بيروت عام 1975ــ ولربما كان أهم عمل حول آفاق السلام العربى الإسرائيلى ــ الذى هز المجتمع الفكرى، المصرى والعربى.
ولد محمد سيد أحمد فى 29 نوفمبر 1928. ينتمى والده عباس سيد أحمد باشا إلى النخبة الأرستقراطية المصرية وكان حاكم محافظتى السويس وبورسعيد فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى. والدته، وحيدة يسرى، تنحدر أيضًا من عائلة أرستقراطية، وكانت شقيقة اسماعيل صدقى، رجل الدولة القوى الذى شغل مرتين منصب رئيس وزراء مصر خلال فترة الحكم الملكى.
عندما كان طفلًا، نشأ سيد أحمد على يد مربية اسكتلندية وذهب لمدارس ابتدائية فرنسية. لم يكن يعرف اللغة العربية على الإطلاق حتى سن الحادية عشرة. رينيه جرانييه، أحد أساتذته الموقرين فى المدرسة الثانوية الفرنسية، عرّفه على عالم الفكر الماركسى ورؤيته الاجتماعية. فى سن السابعة عشر انضم إلى الإيسكرا (الشرارة)، إحدى المجموعات الماركسية الثلاث الرائدة فى البلاد. كان زعيمها هيليل شوارت ــ يهودى هاجر والده إلى مصر من رومانيا.
أقنع اسماعيل صدقى، وعم سيد أحمد ذو النفوذ الكبير، والدىّ سيد أحمد بإرساله إلى فرنسا للدراسة الجامعية، لكن سيد أحمد عاد إلى مصر بعد ذلك بوقت قصير واستُهدف من قبل الشرطة السياسية الملكية. اختبأ لمدة عامين فى شقة الطبيب اليهودى أوديت حزان، الزعيم المتشدد لفصيل شيوعى صغير يسمى صوت البروليتاريا. وتم القبض على سيد أحمد فى النهاية عندما اشتبك مع ضباط الشرطة الذين جاءوا لاحتجاز حزان، وحُكم عليه بالسجن لمدة عامين. أطلق سراح سيد أحمد عقب ثورة حركة الضباط الأحرار عام 1952، وأكمل دراسات الهندسة والقانون بجامعة القاهرة.
***
اضطهد النظام الشمولى بقيادة جمال عبدالناصر الشيوعيين المصريين، ليس فقط لأنهم عارضوا منهجه فى قضايا مختلفة، ولكن بشكل خاص لإصرارهم على الحفاظ على استقلال تنظيماتهم السرية، رافضين تفكيكها والاندماج مع التنظيم السياسى الحاكم.
بلغ القمع الحكومى ذروته فى بداية عام 1959، مع الاعتقالات الجماعية للنشطاء والمتعاطفين مع الجماعات الشيوعية المختلفة. وكان سيد أحمد من بين آلاف المعتقلين الذين عانوا ظروف سجن قاسية. بعد خمس سنوات، أطلق ناصر سراح جميع السجناء الشيوعيين، بشرط تفكيك منظماتهم المستقلة والموافقة على الانضمام إلى الاتحاد الاشتراكى العربى، الحزب الحاكم الوحيد.
وافق النشطاء على شروط النظام وانضموا إلى الحزب الحاكم، حيث تم تكليف الشخصيات القيادية بمهام تشمل واجبات إدارية وإعلامية وتعليمات أيديولوجية. تم تعيين سيد أحمد فى البداية فى جريدة أخبار اليوم وبعد ذلك فى الأهرام كمعلق دبلوماسى كبير. وفى وقت لاحق، أصبح أحد مؤسسى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، والذى تأسس بعد هزيمة مصر على يد إسرائيل فى حرب الأيام الستة عام 1967.
فى هذا الوقت تقريبًا، بدأ سيد أحمد ينجذب إلى «دوامة الصراع العربى الإسرائيلى». ففى مناقشات معمقة بين أعضاء هيئة تحرير جريدة «الطليعة» الشهرية الماركسية التى تصدر برعاية الأهرام، تبنى سيد أحمد موقفا غير تقليدى حيث عارض المقاربات التى كانت سائدة فى الخطاب المصرى حول إسرائيل مُظهرا فهما لمحنة اليهود وصدمة الهولوكوست التى تعرضوا لها. فى الوقت نفسه، كان يعتقد أن المعاناة التى عاشها اليهود لا يمكن أن تبرر اضطهاد الفلسطينيين وتجريدهم من ممتلكاتهم.
فى خضم حرب الاستنزاف الإسرائيلية ــ المصرية (يوليو 1967 حتى أغسطس 1970)، أدرك المرحلة التالية من الصراع، حيث لا يمكن فقط تعويض التفوق النوعى لإسرائيل من خلال التفوق الكمى للعرب، ولكن أيضًا عندما يمتلك الجانب العربى بعض عناصر التفوق الإسرائيلى وتحققت الثمار فى حرب أكتوبر عام 1973.
بعد تلك الحرب، تطور حوار فكرى واسع فى مجموعة متنوعة من المنابر المحلية حول انعكاسات الإنجاز المصرى والتطورات التى يمكن توقعها على الصعيدين المحلى والإقليمى. فَجَرت أهم المناقشات خلف أبواب مغلقة فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، وكانت مصدر إلهام لسيد أحمد وألف كتابه «بعد أن تسكت المدافع». كانت نسخته العربية عبارة عن مجلد مكون من 400 صفحة يشير إلى مجموعة واسعة من القضايا الفلسفية، لكن الترجمات ــ ثمانى لغات أجنبية بما فى ذلك العبرية والإنجليزية ــ تضمنت فقط الأقسام التى تتناول الصراع بشكل مباشر وطرق حله. فسر المحللون فى إسرائيل والعالم الكتاب على أنه بيان للسلام وذلك قبل عامين من إعلان الرئيس أنور السادات عن مبادرته التاريخية للسلام.
إن افتتاحية الكتاب هى دعوة شجاعة للناس للتوقف عن تصور المستقبل وفقًا للماضى. ومضى سيد أحمد فى تحليل نتائج حرب أكتوبر على أنها «لا نصر ولا هزيمة»، بمعنى أنه سيكون كافيا إذا لم تحقق إسرائيل نصرًا كاملا فى حرب لتشكل تلك الحرب تراجعًا وهزيمة ويكفى إذا لم يتعرض العرب للهزيمة فى حرب لتأخذ تلك الحرب طابع الانتصار.
***
خلقت حرب عام 1973، لأول مرة فى تاريخ الصراع، معادلة معتمدة على «قاسم مشترك من نوع ما«، وبفضله أصبح من الممكن مناقشة سلام عربى إسرائيلى قائم على اعتبارات عقلانية وتقييم ميزان القوى بين الخصمين.
فى هذا السياق، جذب مقطع فى كتاب سيد أحمد انتباه القراء والمراجعين أكثر من أى مقطع آخر. فيه اقترح إنشاء حزام للصناعات الثقيلة فى المناطق الحدودية التى تفصل بين الدول الأطراف فى الصراع، كعنصر يساعد فى إحلال السلام وتحقيق اتفاق عام على تجنب استخدام أسلحة الحرب. يرى سيد أحمد فى هذا الجزء أن المشروع الصهيونى سينقرض فى عصر السلام، بمجرد أن يبدو وكأنه حقق هدفه وفرض وجوده على محيطه. وكتب أن اللحظة التى يتحقق فيها الحلم الصهيونى ستكون هى اللحظة التى يتزعزع فيها وجوده.
فى عام 1995، بعد 20 عامًا من إصدار «بعد أن تسكت المدافع»، نشر سيد أحمد كتابًا بعنوان «سلام أم سراب؟» واستعرض فيه التحولات التى حدثت فى خريطة الصراع العربى الإسرائيلى خلال العقود الفاصلة. ومع ذلك، فى حين أنه لم يُترجم ولم يحظ بصدى وقراء واسعين كالعمل السابق، إلا أنه أثار جدلا بين المثقفين المصريين والعرب.
***
بعد أربع سنوات من وفاة سيد أحمد، صدر عن دار الشروق المصرية كتاب عن حياة سيد أحمد بعنوان «لمحات من حياة غنية» وهو عبارة عن لفيف من ذكريات الأسرة والشركاء الأيديولوجيين وكذلك الزملاء الذين اعترضوا على أفكاره. وللكتاب مقدمة كبيرة لمحمد حسنين هيكل، الصحفى المصرى البارز والمقرب السابق من الرئيس ناصر.
الفصل الأخير من «لمحات من حياة غنية» هو سرد سيد أحمد نفسه عن تجاربه فى الحركة الشيوعية المصرية. وهنا يتضح أنه راوٍ بليغ، يمتلك حس دعابة خفيا ويقدم نقدًا دقيقًا لأخطاء الماضى التى ارتكبتها الحركة التى كرس لها حياته منذ صغره، بجانب نقد أخطائه الخاصة.
يقول كاتب المقال يوسى أميتاى فى ختام مقاله إنه نشأت صداقة شخصية عميقة بينه وبين سيد أحمد، وكان دائما يتوق لمقابلته وإشراكه فى حوار مستمر. جاءت له تلك الفرصة عندما زار القاهرة فى عام 1991. وفى وقت لاحق، شغل يوسى أميتاى منصب مدير المركز الأكاديمى الإسرائيلى فى القاهرة، فى تلك الفترة بالتحديد كان يلتقى بشكل متزايد بسيد أحمد.
وفى ما تبين أنه اللقاء الأخير، أخبر سيد أحمد يوسى أميتاى عن مرض الأوعية الدموية الذى كان يعانى منه. وبعد بضعة أشهر صدمه نبأ وفاته. فى رحلتيه التاليتين إلى القاهرة، رافق كريمته مايسة طلعت لزيارة قبر زوجها فى ضريح الأسرة فى ضواحى القاهرة القديمة، ووضعا إكليلا من الورود الحمراء على قبره.
إعداد: ياسمين عبداللطيف زردالنص الأصلى: