تهيئة الوعى الجماهيرى لقبول التطبيع
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 29 أبريل 2020 - 10:10 م
بتوقيت القاهرة
كان بودًّ الإنسان أن يكتب عن الجوانب المشرقة الروحية والنًّفسية والقيمية الأخلاقية الكامنة فى فريضة صوم شهر رمضان المبارك الذى أطلّ علينا منذ بضعة أيام.
لكن أبى البعض فى الخليج العربى إلا أن يحرفنا عن المشاركة فى تلك المهمّة المحبّبة إلى النفس والانخراط فى أجواء رمضان العابقة بسمو الروح فوق المماحكات والصراعات الغريزية التى تملأ حياة العرب فى اللحظة التى يعيشونها. فالبعض فى هذا الخليج المنهك مصّرون على دفعه فى ممارسة ظاهرة سياسية ــ ثقافية، محيرة للعقل، وباعثة على الاستغراب، تتلخّص فى تراجع كارثى فى الالتزامات القومية والدينية والإنسانية تجاه الشعب العربى الفلسطينى.
وللتذكير، وباختصار شديد، بدأت الظاهرة بغض النّظر عن زيارات بعض الأفراد والجماعات للكيان الصهيونى ومصافحة بحرارة أيادى كل أنواع المجرمين الصهاينة من الذين استباحوا وقتلوا ودمّروا الحياة الفلسطينية عبر سبعين سنة. ثم أعقبت ذلك قيام البعض بخطوات تنسيقية تطبيعية تعاونية مع مؤسسات الاستخبارات الصهيونية ومع أشكال من مؤسسات الحكم والمجتمع المدنى الصهيونية.
ثم توالت أنواع من الدعوات الرسمية لجهات صهيونية رسمية وغير رسمية للمشاركة فى مؤتمرات دولية تقام هنا أو هناك، وليقوم أولئك الصهاينة بعد ذلك بزيارات علنيّة لشتّى المعالم السّياحية من أجل التأكيد بأن ظاهرة التطبيع أصبحت نشاطا اعتياديا فى هذا الجزء من الوطن العربى. وعندما تباهى رئيس وزراء الكيان الصهيونى المجرم بأنه على اتصال دائم ببعض المسئولين لم يصدر تكذيب رسمى، مّما استوجب طرح ألف سؤال وسؤال عمًّا وراء ذلك، وعمّا إذا كان بعض الخليج العربى قد أصبح يقوم بالوكالة، تحت الضّغط والابتزاز، لتحقيق رغبات جهات استعمارية خارجية، أبرزها اللٌّوبى الصهيونى فى نظام الحكم الأمريكى، وهو اللّوبى إياه الذى ادّعى بأنه يعدُّ لتقديم مقترح «صفقة القرن» بالتنسيق مع جهات عربية، بما فيها جهات خليجية.
لم يكتف ذاك البعض، وهو فى جميع الأحوال يمّثل أقلية محدودة ولا يملك شرعية حق إتخاذ قرارات مثل خطوات التطبيع تلك، بذاك التخبّط العبثى فى الجانب السياسى من قضية العرب الأولى، قضية الصًّراع الوجودى العربى الصهيونى، وإنًّما انتقل مؤخرا ليهيّئ الوعى الشعبى العربى لقبول التطبيع والتعايش مع الكيان الصهيونى من خلال الثقافة الإعلامية.
وهكذا، ومع بداية هذا الشهر الفضيل، فوجئنا بعرض مسلسلات رمضانية مثيرة للجدل، مليئة بالأخطاء التاريخية المضلًّلة، غير مقنعة بأهدافها المعلنة، تتناول جانبا من جوانب تاريخ الصراع العربى ــ الصهيونى بشكل فيه الكثير من الشُّبهات.
وسواء قصد كاتبو المسلسلات ومنتجوها والقائمون بتمثيل أدوارها التناغم مع بعض الادعاءات الصهيونية أم لم يقصدوا، فإنًّهم يطرحون موضوعا محُّببا للقوى الصهيونية العالمية، موضوع الادعاء الصهيونى الكاذب بأن اليهود العرب كانوا مضطهدين، وبأنهم بالتالى اضطروا للهجرة إلى الكيان الصهيونى لحماية أنفسهم، وبأنه مثلما قبل الكيان الصهيونى استقبال المهاجرين اليهود العرب فعلى العرب أن يشجعوا الشعب الفلسطينى على ترك وطنهم للصهاينة والعيش فى البلاد العربية التى يختارونها.
هكذا يريد الصهاينة أن تختلط الأوراق وأن يقتنع الإنسان العربى فى أعماق وعيه بأن الموضوع الفلسطينى ليس أكثر من صفقة تبادل وينسى أن الوجود الصهيونى فى فلسطين هو هجمة استعمارية، مبنّية على أساطير دينية خرافية، لاحتلال أرض شعب عربى عاش فيها عبر آلاف السنين، بل وللتوسع التدريجى لإقامة دولة «إسرائيل» التوراتية من النيل إلى الفرات، مضافا إلى تلك المطالب فى الآونة الأخيرة حقّ اليهود للرجوع إلى شبه الجزيرة العربية لاسترجاع ما فقدوه عند قيام الحكم الإسلامى.
إن عرض تلك المسلسلات فى هذه اللحظة التى تتكالب فيها كل قوى الشرًّ فى العالم، بقيادة نظام الحكم الأمريكى الحالى، لإنهاء الموضوع الفلسطينى برمّته والخضوع التام للمنطق الصهيونى الاستعمارى المدّعى بحقّه المقدّس فى سرقة أرض فلسطين العربية، هو خروج تام، قصد كتابها ومخرجوها وممثّلوها أم لم يقصدوا، عن الالتزامات العروبية والدينية والإنسانية تجاه شعب فلسطين العربى.
المطلوب هو تقديم اعتذار لإخوة لكم اعتقدوا عبر السنين بأن إخوانهم وأخواتهم فى العروبة والدّين سيكونون لهم الحصن الحصين الذى سيساندهم فى استرجاع أرضهم، إذا بهم يبتلون بخطوات متنامية تطبيعية تطعنهم فى الظهر. هل نتجنّى؟ اسألوا الشيخ والعجوز والأرملة واليتيم والأسير الفلسطينى، فلعلّ دموعهم وزفراتهم تنير ألق العدالة فى قلوب المطّبعين القاسية. وتذكروا فى هذا الشهر الفضيل بأن هناك ربّ الحق والقسط والميزان الذى يراقب ويسجّل.