«ليالي ألف ليلة» وسياق الكتابة
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 29 أبريل 2023 - 9:05 م
بتوقيت القاهرة
(1 )
منذ بدايات الأدب العربى الحديث، وظهور الأنواع الأدبية المستحدثة كالرواية والقصة والمسرحية اتجهت أنظار المبدعين والكتاب إلى التراث الشعبى تستوحيه وتستلهمه فى أعمال معاصرة.
وحاول الكثيرون محاكاة أسلوب (ألف ليلة) ولغتها، مثلما حاول آخرون محاكاة أساليب تراثية أخرى، تنوعت بين لغة المقامات وبيان الجاحظ، ونثر التوحيدى، وإشراقات المتصوفة، فضلا على محاكاة تجارب السرد التاريخى وكتب الحوليات وما إلى ذلك.
ولقد ظلت (ألف ليلة وليلة) تجد إغراءاتها السارة فى الامتداد بها على أيدى مبدعى القص العظام فى الشرق والغرب معا، بل وتجد تجسيدا لها بالفيلم السينمائى، والمقطوعة الموسيقية والسيمفونية الكاملة، والتمثيليات الإذاعية والتليفزيونية، والإبداعات المسرحية والقصصية، من قصص (الليالى) ذاتها؛ فلقد صارت الأرض بأسرها أرضا لـ(الليالى)، كما يقول بحق المبدع الراحل خيرى شلبى.
لكن نجيب محفوظ انفرد فيما أظن لروح الليالى، وما انفردت به من قدرة على طرح القضايا والموضوعات الشائكة فى المجتمعات العربية فى القرون الوسطى، كل ما كان مسكوتا عنه أنطقته (الليالى) بأفصح عبارة بل بأجرأها، وأكثرها قدرة على إحداث الصدمة إذا جاز التعبير.
ثنائيات عديدة جسدتها الليالى من أول ثنائية الخير والشر، الرجل والمرأة، الحاكم والمحكوم، الإنس والجن، الواقع والخيال، الشعر والنثر، البر والبحر، وليس انتهاء بثنائيات السامى والوضيع، السادة والعبيد، الأمراء والعوام.. إلخ.
(2)
لقد وضع محفوظ يده على روح الليالى أو كما يعبر عنها المرحوم خيرى شلبى ــ أحد قراء الليالى العظام ــ بقوله «فروح (ألف ليلة) فى القص هى «القضية» وليست اللغة، والتجارب الموازية لتجارب (ألف ليلة وليلة) هى القضية الأخرى، وليس أسلوب (ألف ليلة وليلة)».
هذا بالضبط ما وعاه محفوظ من الليالى، وأدرك بذائقته وحسه الرفيع ما انطوت عليه من تمرد وخروج على السائد لم يقف عند الدلالة المباشرة لأجرأ ما طرحته الليالى من أفكار وألفاظ بل تجاوز ذلك إلى ما أطلق عليه «الابتذال الإنسانى» فى ألف ليلة وليلة.
يقول نجيب محفوظ فى حواره مع حسين حمودة: «الابتذال» الذى يمكن أن يراه بعضهم فى (ألف ليلة وليلة) هو «الابتذال الإنسانى» إن صح القـول؛ هو الابتذال الطبيعى العادى الذى هو قائم فى كل مجتمع إنسانى. إن مؤلف (ألف ليلة وليلة)، أو بالأصح مؤلفيها، قد رووا وكتبوا بعفوية عن «واقع الحياة»، فخرج «واقع الحياة» هذا بكل ما فيه من عمق وبساطة معا، وأيضا بكل ما فيه من خصوصية وابتذال؛ كل هذا قد خرج فى «كل» واحد لا يتجزأ. لقد صيغت (ألف ليلة)، فى الحقيقة، فيما يشبه «دائرة معارف» نفسية اجتماعية متكاملة، وسعَت إلى أن تحتوى الحقائق الإنسانية بكل ما فيها من مستويات، وبكل ما فيها من جوانب حقيقية، خفية أو معلنة.
(3 )
وإذا كان البعض قد حاول الإفادة من (ألف ليلة) باقتباس مقطع منها أو بالإشارة لشخصية من شخوصها أو موقف غريب أو عجيب أو واقعى من حكاياتها، أو غيرها من تراثنا الشعبى والملحمى، فإن نجيب محفوظ قد أدرك ما وراء ذلك كله؛ وهى قدرة «ألف ليلة وليلة» على أن تكون لسان كل عصر، وكل مصر، وكل مهمش وكل مقموع.
أن (ألف ليلة وليلة) روح فى الكاتب، إنسان يحيا ومبدع ينتج ويثمر، كما شجر الجميز، ليالى جديدة مختلفة الإيقاع والأنغام، لأنها مختلفة العصر، فهذه الروح هى التى تمنح الكاتب انتماءه، فى حياته وإبداعه، لأرض (ألف ليلة وليلة)، الممتدة من الهند، بل مما وراءها إلى المغرب الآن، وإلى الأندلس سابقا، هى التى تمنحه شرف أصالته ومخيلته، وشرقيته، إذا بلغت جودة إبداعه ذروة ما متفردة، تكسبه الطعم، واللون، والرائحة، تثريه بروح الزمان والمكان.
(4 )
ومن يقرأ ليالى ألف ليلة لنجيب محفوظ بكل ما فيها من خيال مذهل وجن وعفاريت واختراق حواجز الزمان والمكان سيدهش جدا من هذه الإشارات العبقرية المضمنة فى النص التى تسمح بقراءات وتفسيرات غاية فى المعاصرة والاشتباك مع واقع الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية فى مصر والعالم العربى كله زمن كتابة الرواية (أواخر السبعينيات ومطالع الثمانينيات من القرن الماضى).
يسأل محمد سلماوى نجيب محفوظ فى حواراته معه:
ـ قلت: روايتك جاءت معاصرة جدا، برغم احتفاظك بأجواء (ألف ليلة وليلة) والكثير من شخصياتها؟
ـ يجيب محفوظ: إن نظرى دائما على الواقع فى كل أعمالى، مهما تكن الرواية تتحدث عن التاريخ، أو تستلهم التراث، فالحاضر هو الذى يحركنى حتى وأنا أكتب عن الماضى».
تبدأ الرواية من حيث انتهت (ألف ليلة وليلة) الأصلية، بعد الليلة الواحدة بعد الألف، حيث من المفترض أن يتوقف مسلسل قتل العذارى بإعلان زواج شهريار من شهرزاد والعفو عنها بعد أن أسرته بحكاياتها التى يصفها شهريار بـ«حكاياتها السحر الحلال، تفتحت عن عوالم تدعو للتأمل».
وتنبنى الرواية هيكليا على مدخل يستعرض الشخصيات الأربعة الرئيسية، واثنتى عشرة حكاية فيها أبرز تيمات الليالى العجائبية والغرائبية، وخاتمة.
وخلال ذلك يحشد محفوظ شخصياته العجيبة الساحرة من الوزراء، والأعيان، والولاة، وقادة الشرطة، عدا بسطاء الناس ممن اجتمعوا فى «مقهى الأمراء» بالحارة الشعبية المعروفة فى مدينة العصور الوسطى الإسلامية، يُظللهم الجن والعفاريت!
(5 )
تقيم «ليالى ألف ليلة» من «مقهى الأمراء» نموذجا للمجتمع الشعبى البسيط الذى يعج بآلام وأنات ساكنيه، ويعج بآمالهم وأشواقهم المخلوطة بعذاباتهم أيضا، ويجعل محفوظ من المقهى أو «حارة الليالى» الصورة المصغرة للعالم الأكبر، نرى فيها الماضى السحيق والحاضر القريب. تقول الكاتبة والمترجمة اليونانية المعنية بأدب محفوظ؛ بيرسا كوموتسى، فى كتابها عنه:
«فى أجواء أسطورية رائعة مستخرجة من نواة الشرق الحالم البعيد، فنان الكلمة العظيم يذهب بنا بالقرب من عالم التاريخ القصصى القديم، هذا الكتاب بالتحديد يحمل كنوزا أثرت فىّ وغيرت تماما وبدون أى مبالغة فكرتى عن العالم».