دلالات فوز إردوغان
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 29 مايو 2023 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
لم تغرد نتائج الاستحقاقين الرئاسى والبرلمانى، اللذين شهدتهما تركيا هذا الشهر، بمنأى عن سرب السيرورة السياسية، التى ألفتها البلاد طوال العقدين الماضيين.
فمنذ العام 2002، توالت الإنجازات الانتخابية للرئيس إردوغان وحزبه، حتى تمكن من اجتياز ما يقارب خمسة عشر استحقاقا، ما بين رئاسى، وبرلمانى، وبلدى، أو استفتاءات على تعديلات دستورية. ورغم انكماش حصيلة أغلبيته من مقاعد البرلمان الجديد، مقارنة بسابقه، لم يكن يحتاج سوى 270 ألف صوت فقط لحسم الماراثون الرئاسى الأخير من جولته الأولى.
إلى حد بعيد، جاءت نتائج الاستحقاقين الأخيرين متناغمة مع التجربة السياسية للمعارضة التركية، وزعيمها ومرشحها للانتخابات الرئاسية الأخيرة، كمال كليشدار أوغلو. فلقد تراجع تحالف «الأمة»، الذى يترأسه، ويضم ستة أحزاب، فى الانتخابات البرلمانية، ليأتى فى المرتبة الثانية، من حيث عدد الأصوات والمقاعد، بعد تحالف «الجمهور» الحاكم. تزامن ذلك مع عدم قدرة، كليجدار أوغلو، على حسم الانتخابات الرئاسية، أو التفوق فى نسبة الأصوات على الرئيس إردوغان، خلال الجولة الأولى من السباق. وبينما تسنى لكليشدار أوغلو، اقتناص دعم زعيم حزب الظفر اليمينى المتطرف، أوميت أوزداغ، خلال الجولة الثانية، إثر تعهدات انتخابية بإخلاء تركيا من اللاجئين؛ وجه مرشح «تحالف الأجداد»، القومى المتشدد سنان أوغان، ضربة قوية لكليشدار أوغلو، بإعلانه دعم إردوغان. ذلك الذى يراه صاحب الأغلبية فى البرلمان الثامن والعشرين، والمتحمس لمحاربة ما يصفه بـ«الإرهاب الكردى». والقادر على إعادة اللاجئين لبلادهم، وفق جدول زمنى، يحترم الالتزامات القانونية ويراعى الأبعاد الإنسانية.
لم تكن تلك هى الهزيمة الانتخابية الأولى لكليجدار أوغلو، الذى تولى رئاسة حزب الشعب الجمهورى الأتاتوركى عام 2010. ففى عام 2009، خسر الانتخابات البلدية أمام مرشح حزب العدالة والتنمية، قادر توباش. كما فشلت حملته المضادة عام 2010، لإجراء استفتاء على الدستور. ولم تستطع المعارضة التى يتزعمها، الفوز فى الانتخابات العامة سنة 2011، أو المحلية عام 2014، ثم الرئاسية، فى ذات العام، وصولا إلى الانتخابات العامة سنة 2015، ثم تلك المبكرة فى العام نفسه، بالإضافة إلى خسارة حملته المناهضة للتعديل الدستورى عام 2017، ثم الانتخابات العامة 2018.
من المتوقع أن تتمخض نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة، عن تغيرات لافتة فى الخريطة الحزبية والسياسية التركية. فربما تفضى خسارة تحالف الأمة المعارض للاستحقاقين، إلى تصدع تحالف الطاولة السداسية، أو انفراط عقده. فرغم توقيع الأحزاب الستة المنضوية تحت لوائه على بروتوكول تحالف من سبعة بنود، تنصب حول دعم كليشدار أوغلو، حتى هزيمة إردوغان والعودة للنظام البرلمانى. ينذر ضياع أمل المعارضة فى حصد أغلبية برلمانية، ثم خسارتها السباق الرئاسى، لتفكيك ذلك التحالف. وقد لاحت إرهاصات ذلك الأمر، فى تقديم عشرات الكوادرالسياسية المؤسسة للأحزاب المنخرطة بالتحالف استقالاتها. وكذا إصدار أحمد داوود أوغلو، رئيس حزب المستقبل، بيانا يرفض فيه تعهد كليشدار، حالة فوزه بالرئاسة، بمنح، أوميت أوزداغ، رئيس حزب الظفر القومى، منصب وزير الداخلية، نظير دعمه إياه فى الجولة الثانية من السباق.
فى المقابل، برزت مؤشرات على صعود نجم التيار القومى، بشتى أطيافه. فرغم أجواء التشرذم التى تعتريه، وتعثر جهود ترميم «البيت القومى»، خاصة فى ظل إصرار حزب الحركة القومية على الانحياز للتحالف الحاكم، وميل حزبى الجيد والظفر، صوب المعارضة؛ تمكن «تحالف الأجداد» بزعامة سنان أوغان، من لعب دور «صانع الملوك» فى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. وذلك بعدما انتزع 5,4 % من مجموع أصوات جولتها الأولى، واقتنص المرتبة الثالثة فى الانتخابات البرلمانية. إذ حصلت الأحزاب القومية مجتمعة (الجيد ــ الحركة القومية ــ الظفر) على 12.17 مليون صوت، مثلت نسبة 23.7 % من إجمالى الأصوات، ما خولها انتزاع زهاء مائة مقعد. وهى نسبة تقترب من إجمالى أصوات حزب الشعب الجمهورى، الذى حل ثانيا، بحصوله على 25,39%. ويراهن التيار القومى على توسيع قاعدته الشعبية، مستغلا مناهضته حزب العمال الكردستانى، المصنف إرهابيا. وقد أجاد القوميون استثمار اضطرار حزب الشعب الجمهورى للتحالف مع حزب الشعوب الديمقراطى الكردى، واعتراض، ميرال أكشنار، رئيسة الحزب الجيد القومى، وانسحابها من الطاولة السداسية، فى مارس الماضى. وفى تغريدة له قبيل إجراء الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، تفاخر سنان أوغان، بالنجاحات التى حققها القوميون خلال الاستحقاقين. متباهيا بإنعاش الكمالية والقومية التركية، وإعادة تموضع القوميين الأتراك فى قلب المشهد السياسى التركى، بعدما أصبحوا ثالث أكبر قوة برلمانية، وأمسوا رقما انتخابيا وازنا، بمقدوره ترجيح كفة الفائز فى الانتخابات الرئاسية، وإجبار المرشحين الذين وصلوا إلى جولتها الثانية على التزلف إليهم، عبر تبنى خطاب دعائى موغل فى القومية.
يبقى المصير السياسى لكليشدارأوغلو، على المحك. فأمام جمع من أنصاره بولاية مالاطيا (شرق) إحدى الولايات الـ11 المنكوبة بزالزال 6 فبراير، قال إردوغان: «سنزيح قادة المعارضة من المعترك السياسى فى 28 مايو». وضمن سياق استراتيجيته الدعائية الانتخابية، قدم، كليشدار أوغلو، نفسه بوصفه نصير الديمقراطية فى تركيا؛ حيث أكد أنه سيحمل القانون، والعدالة، والاستقرار إلى هذا البلد. واعدا بـ«الربيع». كما طرح نفسه مناهضا للفساد، الذى استشرى فى أروقة السياسة التركية، منذ سنوات، حتى تفشى فى جنبات أعلى هرم السلطة. وتعهد بعدم مصادرة الحكم، مشددا على أنه «بعد إعادة الديموقراطية» والحد من سلطات الرئيس، سيتخلى عن كل شىء، ويتفرغ للاهتمام بأحفاده.
بيد أن جبهات داخل تحالف المعارضة، قد تجنح لتحميل رئيس حزب الشعب الجمهورى، فاتورة الإخفاق فى الاستحقاقين الرئاسى والبرلمانى. كونه قد تمسك بتمثيل المعارضة فى الماراثون الرئاسى، وتحدى آراء سياسيين ومفكرين ارتأوا أنه لم يكن الأجدر بتمثيل المعارضة. هنالك، سيجد، كليجدار أوغلو، نفسه مضطرا للنضال من أجل حماية موقعه كرئيس لأكبر وأعرق الأحزاب التركية، وهو ليس نائبا فى البرلمان. وبينما تسنى له ذلك، فيما مضى، رغم إخفاقات انتخابية وسياسية عديدة، فإن الأمر جد مختلف، هذه المرة. فلقد أصر الرجل على خوض الماراثون الرئاسى بنفسه، مقامرا بماضيه ومستقبله السياسيين. وإذا ما تعنّت فى الاستقالة مجددا، فقد لا يمكنه ببلوغه الرابعة والسبعين، من خوض انتخابات 2028. لاسيما أن دائرة معارضيه داخل الحزب آخذة فى الاتساع عقب الاستحقاقين الأخيرين.
رغم أن الاستقالة ليست تقليدا أصيلا فى السياسة التركية بوجه عام، أو لدى حزب الشعب الجمهورى بالخصوص، عند الفشل السياسى أو خسارة الانتخابات. إلا أن التغييرات فى قيادة الحزب، غالبا ما تأتى نتيجة مخاض عسير. فلقد اعتلى، كليجدار أوغلو، رئاسته بعد فضيحة أخلاقية، أجبرت سلفه، دينيز بايكال، على الاستقالة. وفى حالة تنحى كليجدار أوغلو، سيبرز نجم، أكرم إمام أوغلو، الذى انتزع رئاسة بلدية اسطنبول عام 2019، من رئيس الوزراء السابق بن على يلدريم، بفارق هائل. فلدى السياسى الشاب مؤهلات الكاريزما، والقيادة، والقدرة على التواصل مع المجتمع، وتقريب الحزب المكلوم إلى شريحة أكثر محافظة وقومية.
ربما يمتد تأثير نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، ليطال الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها فى ربيع العام المقبل. فقد يشكل نجاح تحالف الجمهور الحاكم فى هذين الاستحقاقين، قوة دفع له فى استعادة البلديات الكبرى، التى فقدها حزب العدالة خلال الانتخابات المحلية عام 2019، مثل: إسطنبول، وأنقرة، وأزمير، وأنطاليا.
قد يفضى بقاء إردوغان رئيسا لسنوات خمس قادمة، مدعوما بأغلبية برلمانية، وإن كانت غير حاسمة، إلى تعاظم سلطاته، بوصفه أقوى رؤساء تركيا، وأطولهم مكوثا فى الحكم، ضمن نظام رئاسى. الأمر الذى يعينه على تنفيذ برنامجه الانتخابى، المعنون «القرن التركى الجديد». ومن ثم، الانطلاق صوب تأسيس الجمهورية التركية الثانية، بعد طى سجلات جمهورية أتاتورك الأولى، التى دامت قرنا من الزمن.
يبقى حريا بالرئيس الثالث عشر، أن يستهل ولايته الجديدة والأخيرة، بتحرى السبل الكفيلة بتجاوز الأزمة الاقتصادية الطاحنة؛ بالتوازى مع رأب الصدع المجتمعى الناجم عن الاستقطاب السياسى والهوياتى الحاد، الذى خيم على أجواء الاستحقاقين الأخيرين. كما يجدر بالنخبة التركية جمعاء، العمل على كبح جماح النزعة القومية المفرطة، التى فرضها التنافس الانتخابى المحموم، على المزاج السياسى التركى.