«عقلانية» الأستاذ الإمام ومدرسته الإصلاحية
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 29 يوليه 2023 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
ربما كان الأزهر الشريف أقدم مؤسسة علمية تعليمية دينية يعود تاريخها لما يزيد على الألف سنة، وهى بهذا المعنى تعد واحدة من أقدم جامعات العالم منذ العصور الوسطى وحتى وقتنا الراهن.
ما يخص تاريخ الأزهر قبل العصر الحديث يعده المؤرخون المتخصصون يندرج فى باب التاريخ الوسيط، وأما «الأزهر» منذ دقت الحملة الفرنسية (1798ــ1801) أبواب المحروسة فشأن آخر، إذ تكشف مع صدمة الاحتكاك والوعى بالفارق الحضارى الرهيب بين العالمين العربى والإسلامى والعالم الغربى ممثلا فى حملة نابليون بونابرت ما كنا فيه من ظلمات وجمود وتأخر، وبدأت الدعوات المحمومة بمعرفة أفراد أفذاذ ينتمون إلى الأزهر، ربما كان باكورة هذه الحركة الشيخ الجليل حسن العطار شيخ الأزهر الشريف فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهو الأستاذ الذى سيحرض تلميذه رفاعة الطهطاوى على «اكتساب العلوم والمعارف من بلاد الفرنساوية».
ونحن نعرف شيئا عن جهود الشيخ حسن العطار، وهو من المخضرمين الذين عاشوا فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهو فى ظنى باكورة السلالة النهضوية «التجديدية» فى الأزهر التى سيخرج منها الشيخ رفاعة الطهطاوى، والإمام المصلح محمد عبده الأب الروحى لكل تيارات التجديد والإصلاح فى الفكر العربى الحديث.
وبفضل الإمام محمد عبده تحديدا، وجهوده الإصلاحية الكبرى، شهد الأزهر بزوغ تيار عقلانى مجدد ذى نزعة إصلاحية عارمة، وذى روح سمحة، (هذا التيار غرس بذوره الشيخ محمد عبده) ولم يكن غريبا أن يكون محمد عبده أول من يدرس للطلاب فى الأزهر علم البلاغة من كتابى عبدالقاهر الجرجانى (القرن الخامس الهجرى، الحادى عشر الميلادى) «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز»؛ ولم يكن غريبا أن تكون (رسالة التوحيد) استعادة لعلم الكلام الاعتزالى فى مبدأ «العدل» والأشعرى فى مبدأ «التوحيد».
ــ 2 ــ
وقد تتلمذ الأستاذ الإمام على يد جمال الدين الأفغانى خلال السنوات التى قضاها فى مصر (1870ــ1879)، والسنوات التى قضياها فى المنفى فى فرنسا، وكان محمد عبده مثل أستاذه الأفغانى، انخرط فى الدفاع عن الإسلام ضد منتقديه من مفكرى الغرب وكتابه. وردوده على المسيو «جابرييل هانوتو» السياسى والمؤرخ الفرنسى (1853ــ 1944) ، فيما ذهب إليه من اتهام «الإسلام» بأنه علة تخلف المسلمين، يمكن للقارئ الرجوع إليها فى كتابه المهم «الإسلام بين العلم والمدنية».
ويكاد يتفق الدارسون والمتخصصون فى فكر الأستاذ الإمام محمد عبده على وصف خطابه بالإصلاحى التجديدى «الشامل»، وعلى قدرته العالية على محاورة الآخر، ولو من باب السجال، ومن جهة أخرى، هو خطاب حضارى إنسانى يسعى لتأكيد قيم الحرية والمساواة والعدل، ويبتغى استنهاض الشعوب لاسترداد مجدها والسيطرة على مصيرها.
لقد استطاع الشيخ الجليل أن يترجم تصورات الأفغانى العامة إلى خطة عمل فكرى ثقافى شاملة، ومن خلال نهجه الإصلاحى تتلمذ على يد الأستاذ الإمام العشرات من رجال الفكر والثقافة والدين، ومن عباءته الفضفاضة الواسعة خرج السلفى المغرق فى سلفيته «رشيد رضا»، والليبرالى الموغل فى ليبراليته «منصور فهمى» و«قاسم أمين»، والوسطى المعتدل فى وسطيته «الشيخ مصطفى عبدالرازق»، والاشتراكى والاجتماعى، والتنويرى، والسياسى، والناقد، والمفكر، والمفسر، والفقيه، وأستاذ الجامعة...
وكان من تلاميذه أيضا بالفكر، كل من: العقاد، وطه حسين، وأحمد أمين، وسعد زغلول، وعلى عبدالرازق، والرافعى، ومحمد فريد وجدى، وعبدالعزيز جاويش، وغيرهم.
ــ 3 ــ
لكننا نستطيع أن نخص التيار العقلانى المجدد، ذا النزعة الإصلاحية العارمة، بالمجموعة التى تتلمذت مباشرة على يد الإمام محمد عبده وتلاقى فى تكوينها العلمى والثقافى الرافدان الأصيل والوافد، وأثمرت هذه البذور ثمارا طيبة للغاية خلال الخمسين سنة التى أعقبت وفاته، كان من أبرز هؤلاء الأخوان مصطفى وعلى عبدالرازق (ومعهما طه حسين) طليعة تيار الشباب الأزهرى الذى تشرب حرية الفكر والنزوع العقلانى، والإصلاحى الاجتماعى من الأستاذ الإمام محمد عبده.
واستطاعوا استخلاص الدروس القيمة من تراث الإمام الشيخ محمد عبده، وبلورتها فى رؤى وأفكار؛ منها رفض التقليد الأعمى، ورفض غلق باب الاجتهاد، وضرورة تنقية مصادر التثقيف والتعليم الدينى، وضرورة إصلاح الفكر الدينى، وتجديد خطابه تجديدا جذريا وشاملا، وتطوير اللغة العربية، وتجديد أساليبها، والاهتمام الشديد بالعقل الإنسانى، ودوره الفعال والجوهرى فى بناء الشخصية الإنسانية.. إلخ.
ــ 4 ــ
وبعد ذلك بجيل أو اثنين، كان هناك أسماء ممتازة تخرجت فى الأزهر، وبعضهم حصل على درجاته العلمية من فرنسا وألمانيا وغيرهما، واحتك احتكاكا قويا بالمدارس والمناهج الحديثة، وقدم أعمالا رائعة سواء فى مجال الفكر الإسلامى الخالص أو فى مجمل قضايا النهضة والتجديد والإصلاح..
مثالا؛ الشيخ عبدالمتعال الصعيدى، الشيخ المراغى، محمد عبدالله دراز، محمد يوسف موسى، على حسن عبدالقادر، الدكتور محمد البهى، الشيخ عبدالوهاب النجار،... وآخرون. أما آخر موجة فى هذه الحركة، فربما كان يمثلها الراحل الدكتور محمود حمدى زقزوق وزير الأوقاف الأسبق، وقد كان رجل فكر رائعا وأستاذا قديرا من أساتذة الفلسفة الإسلامية (وللأسف، فقد خفت هذا التيار منذ سبعينيات القرن الماضى، وذوت هذه الشعلة الخاطفة إلى حين)..