السياسة والثقافة
مصطفى الفقي
آخر تحديث:
الإثنين 29 يوليه 2024 - 7:35 م
بتوقيت القاهرة
تحدث الكثيرون عن خصومة متوارثة بين السياسة والثقافة فلا يوجد ارتباط شرطى بينهما بل يبدو فى كثير من الأحيان أن العكس هو الصحيح، وواقع الأمر أن الثقافة وعاء ضخم يحتوى المخزون الإنسانى من عقول أصحابه ذلك أن التربية السياسية ليست بالضرورة واحدة من أنماط التعمق الثقافى، صحيح أن بعض المثقفين الكبار قد وصلوا إلى مواقع السلطة الأولى، فقد كان هافل رئيس جمهورية التشيك،على سبيل المثال، روائيًا مرموقًا، وكان رونالد ريجان ممثلًا معروفًا على الساحة الأمريكية قبل أن تقذف به الأقدار إلى المقعد الأول فى الإدارة الأمريكية، وهناك نماذج كثيرة لتحول الدور الثقافى إلى قوة دفع سياسية كما قد يكون العكس صحيحًا بمعنى أن الوجود على الساحة السياسية والارتباط بالعمل العام يمكن أن يؤديا إلى حالات من التميز تدفع بصاحبها إلى صدارة المشهد الثقافى والسياسى معًا، ولقد أصدر الدكتور طه حسين عميد الأدب العربى كتابه مستقبل الثقافة فى مصر عام 1938 محاولًا إيجاد قنطرة بين الثقافة والسياسة وتجسير الفجوة بينهما على نحو يدعو للانبهار، ورغم أنه ربط بين مستقبل الثقافة المصرية وبين علاقتها على مستوى شواطئ المتوسط وجعل الثقافة الهلينية أحد روافد الثقافة المصرية المعاصرة، أقول إنه عندما فعل ذلك فإنه كان يفتح الباب على مصراعيه لحوار متدفق بين الشرق والغرب يبحث فى الهوية المصرية وسلوكيات المصريين على مر العصور، وفى ظنى أن طرق مثل هذه الأبواب من مفكر التجديد والحرية طه حسين إنما يشير إلى حالة من الوعى ربما لم يستعدها العقل المصرى بنفس الدرجة فى وقت آخر، ولقد حرصت عندما توليت إدارة مكتبة الإسكندرية العريقة (2017-2022) أن أعيد طبع كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» احتفالًا بالمئوية الأولى لصدوره وقد لفت نظرى إقبال الشباب من الأجيال الجديدة على قراءة ذلك الكتاب بل واقتنائه باعتباره أحد الكتب المحورية فى الفكر السياسى المصرى المعاصر، ولاشك أن مؤلف الكتاب الدكتور طه حسين فى حد ذاته يمثل قنطرة للتعايش المشترك بين الثقافات والتجاور التاريخى بين الحضارات، وفى منطقتنا العربية كان بشارة الخورى شاعرًا وسياسيًا، وكان عبدالله الفيصل أميرًا سعوديًا مرموقًا وشاعرًا صدحت بكلماته كوكب الشرق أم كلثوم، أى أن التزاوج بين الثقافة والسياسية ليس جديدًا على المستويين العالمى والعربى، وهنا أطرح دعوة للحوار حول هذا الموضوع يمكن تلخيصها فى النقاط التالية:
أولًا: إن التداخل بين الرؤية العامة والبعد الثقافى ليس جديدًا على التاريخ الإنسانى منذ احتوت قصور الولاة والخلفاء على محاورات للشعراء والأدباء الذين أجزل لهم الحكام المنح والعطايا حتى وإن انتهت حياة بعضهم بمأساة مثلما حدث بين المتنبى شاعر العرب الأول وكافور الإخشيد عندما قال المتنبى (لا تشتَر العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُ إِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُ)، فالخلاف بين السلطان والمثقف أو بين الحاكم والفقيه هو خلاف تاريخى معروف عصفت فيه السياسة كثيرًا بالثقافة والمثقفين وإن كان البعض قد اجتمع لديه الأمران معًا، فمحمود سامى البارودى رب السيف والقلم، وقد كان ثروت عكاشة من الضباط الثوار وتولى مسئولية الملف الثقافى لسنوات فى مصر جرى خلالها نقل آثار معبد أبوسمبل بسبب بناء السد العالى، إن هذا النموذج يستحق الاحترام والتقدير، لأنه جمع الحسنيين التألق الثقافى والعمل السياسى.
ثانيًا: إن التقاليد الفكرية العربية قدمت نماذج باهرة للتزاوج بين الأدب والشعر فى جانب وبين السياسة والحكم فى جانب آخر، لأن ذلك أقرب إلى طبيعة العقلية العربية التى تعتمد على ذاكرة الحفظ والتهام التراث ومخاطبة الطبيعة وتأمل الصحراء، وما زلنا نتذكر كيف كان الخلفاء يخرجون إلى الأسواق ويغشون البيوت الفقيرة ويتابعون أصحاب المظالم، فالثقافة العربية تجعل سلوك الحاكم جزءًا لا يتجزأ من ثقافته وتربط فى إحكام بين قدراته وما يمكن أن يؤديه فى اتجاه يخدم مصلحة الأمة، لذلك فإننا لا نكابر كثيرًا فى إعطاء العرب حقهم التاريخى فى الاختراع بل الإبداع أيضًا، وإذا كان هناك من يدعى اليوم أن هناك خصومة بين الثقافة والسياسة فإننا ندفع هنا بشواهد تشير إلى غير ذلك، فالمجالس الحسنية فى المغرب تألقت لسنوات طويلة ومهرجان الجنادرية فى السعودية وجلسات الديوانية فى الكويت والصالونات الثقافية فى مصر وأيقونة محمد بن عيسى فى المغرب المسماة بمهرجان أصيلة هذه كلها نماذج لمجالس ولقاءات تجمع بين السياسة والثقافة ويقوم عليها سياسيون ومثقفون فى الوقت ذاته.
ثالثًا: إن هناك عددًا من المراكز العلمية والبحثية قد خرجت قوافل ممن يهتمون بالسياسة والثقافة معًا بل إن الدولة العربية الحديثة قد ولدت من رحم الصفوة المتميزة من أرباب القلم ودعاة المعرفة والفكر الذين ربطوا الثقافة بالحياة اليومية وجعلوها روزنامة للشأن اليومى على مستوى الأفراد والمجتمعات، ويستأثر العرب المحدثون بتقاليد راسخة من الفكر والبصيرة ويتمكنون من توظيف ما تعلموه وما أدركوه بشكل متواصل فى خدمة الثقافة والسياسة فى وقت واحد، وأنا أتذكر الآن أن مصر الملكية فى عهد أسرة محمد على قد استوزرت عددًا كبيرًا من المفكرين والمثقفين والعلماء، فنحن ما زلنا نتذكر أسماء، مثل أحمد لطفى السيد باشا وطه حسين باشا ومحمد حسين هيكل باشا وغيرهم ممن جمعوا بين المعرفة الأفقية والثقافة الرأسية فى مدارس الأدب وصالونات الفكر بل مزج كثير منهم بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية المسيحية سواء كانت لاتينية أو أنجلو سكسونية، إننا بصدد موزاييك فكرى وثقافى تألق على المسرح السياسى بشكل ملحوظ، وهل ننسى أن الثنائى جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده قد قدما نموذجين باهرين لمزج الدراسات الإسلامية فى العهد الذى عاصروه؟ حتى إن محمد عبده كان يراسل الأديب الروسى تولستوى دلالة على ارتفاع مستوى المثقفين العرب إلى مستوى الحياة السياسية فى أعلى درجاتها حينذاك. رابعًا: إن أسرة محمد على مؤسس مصر الحديثة قد تميزت بتوزيع الأدوار بينهم على الأنشطة الثقافية المختلفة، فالنبيل عمر طوسون يرعى إقليم الإسكندرية ويهتم بنشاط حزب الوفد ويعبر عن إرادة المصريين بمؤلفاته القيمة، والنبيل عباس حليم كان معنيًا بالحركة العمالية والطبقة المؤثرة فى الصناعة والنهضة، بينما تفرغ النبيل يوسف كمال ومعه ابن عمه محمد على الصغير الذى كان وليًا للعهد فى عصرى فؤاد الأول وفاروق الأول بالفنون الجميلة والتراث الباقى فى أحضان دولنا العربية وأقاليمنا الشرقية، أى أن الأسر الحاكمة لم تكن بمعزل عن التيارات الثقافية أو موجات التحضر التى اجتاحت عددًا كبيرًا من البلاد فى منطقتنا العربية، بل إن بعض المشايخ الأزهريين فى مصر فى القرن الماضى قد وقفوا على مشارف جائزة نوبل للسلام نتذكر منهم الآن الشيخ طنطاوى جوهرى حتى تنافس الأزهر فى مصر والزيتونة فى تونس والقيروان فى المغرب فى مضمار الأدب والفن والسياسة فى وقت واحد. خامسًا: إن رواد عصر النهضة العربية من أمثال رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك واليازجى وخليل مطران، وقبلهم جميعًا صاحب الأيقونة التاريخية المسماة كتاب (النبى) جبران خليل جبران قد حملوا جميعًا مشاعل الضوء فى الأراضى العربية وبلاد المهجر وظلوا دائمًا مركز إشعاع بالثقافة الرفيعة والفهم الواقعى للسياسة العصرية المستنيرة. هذه ملاحظاتٌ نوردها فى إيجاز لأننا نريد أن تبقى مكانة العرب فى الميدان الثقافى متقدمة، فإذا كانت الظروف الدولية والتحالفات الخبيثة قد فرضت عليها بعض التراجع مرحليًا إلا أن ذلك لا ينفى أن العرب كانوا ولا يزالون روادًا للنهضة وطلائع للتنوير للعالم كله، فالبذرة الجيدة لا تموت أبدًا.