المشروع القومى للمشروعات القومية!
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 29 أغسطس 2016 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
لا يكاد يوم يمر إلا وأتلقى اتصالا أو اتصالين من أحد الإخوة الصحفيين للسؤال عن رأيى فيما يوصف بالمشروع القومى لشىء ما. سئلت عن المشروع القومى لتنمية محور قناة السويس كثيرا، وسئلت عن 12 مشروعا قوميا ورد ذكرها فى بيان الحكومة الأخير، وسئلت أخيرا عن المشروع القومى للصوبات الزراعية الذى ورد بخطاب للرئيس.. والقائمة تطول!
حقيقة لا أعرف سببا واضحا لوصف مشروع ما بالقومى، هل هو حجم التمويل أم آليات التنفيذ أم طبيعة الأهداف المرجوة من المشروع أم مجرد ذكر الرئيس لأهميته يجعله قوميا؟! فى الواقع كثير من المشروعات الموسومة بالمشروعات القومية تشترك فى خصائصها مع مشروعات خاصة وحكومية أخرى لم يسبق وصفها بالقومية.
***
أغلب الظن أن المقصود بالمشروعات القومية هو المشروعات العملاقة أو الـmega projects، وفى العرف الدولى يعد المشروع عملاقا إذا تجاوز حجم استثماراته المليار دولار مع تعدد آثاره الإيجابية على الاقتصاد والبيئة وامتداد تلك الآثار لأجيال كثيرة قادمة، مع ضرورة توافر جدوى اقتصادية واجتماعية للمشروع. هذه الصفات يمكن أن تنطبق على مشروع تنمية محور قناة السويس والذى يتضح فيه دور الدولة التأسيسى والتنظيمى بما يشمله من توفير الأنفاق والطرق والمطارات والمرافق اللازمة لجذب الاستثمارات لإحياء هذا الموقع المهمة. الدولة إذن كما تعلمنا فى الاقتصاد تقوم بالاستثمار فيما يعزف عنه القطاع الخاص، وتعد المشهد الاقتصادى وبيئة الاستثمار على النحو الذى يرفع من معدلات النمو ويزيد ويحسّن الإنتاجية ويوفّر فرص العمل، وهى فى ذات الوقت تضع القوانين والضوابط التى تضمن حسن توزيع الدخل والثروة والحد من الفقر وصولا إلى دولة الرفاهة للجميع باعتبارها غاية مثلى.
المشروعات القومية الأولى للدولة تبنّيها يجب أن تكون تطوير التعليم الأساسى وتطوير الخدمات الصحية ورفع أمن وسلامة الطرق، يجب أن تتخذ من الإنسان سلامته وعقله وصحته وسائر مقومات التنمية البشرية هدفا أسمى وأولوية عاجلة. هذا هو دور الدولة الأهم والأبرز، وإن عجزت الدولة عن الاضطلاع به فكيف ننتظر أن تنجح فى إقامة وتشغيل مشروعات متطورة ومبتكرة وهادفة للربح ولا ينبغى أن تزاحم فيها المال الخاص؟!
كتبت فى مايو الماضى مقالا بجريدة الشروق عنوانه «المشروعات القومية والتهام السيولة»، وذكرت فيه مخاوفى من غياب دراسات الجدوى وبدائل التمويل للمشروعات القومية المذكورة، فضلا عن أثر المزاحمة للنشاط الخاص وقدرة كل مشروع على التهام السيولة قبل أن يبدأ المشروع فى الإثمار إن هو أثمر!. مازالت تلك المخاوف تكبر لتتوارى خلفها كل الفرص الممكنة التى التمسها لمشروع بعينه أو مشروعين من تلك العائلة الكبيرة من المشروعات. الوضع الاقتصادى لا يسمح بقيام الدولة بدور التاجر والصانع والمستثمر الهادف للربح خاصة مع التأكيد اليومى للحكومة بعجزها عن القيام بدورها التقليدى لتوفير الخدمات الأساسية إلا محررة من أى دعم، ومع التأكيد اليومى لمواطن الهدر والفاقد الكثيرة فى قطاعات مختلفة تقع تحت إدارة الدولة وتتسبب فى تحقيق خسائر كبيرة نتيجة لسوء الإدارة.. منظومة القمح مثال واحد بلغ الهدر فيها مئات الملايين، قطاع الكهرباء وسرقة التيار الكهربائى مثال آخر، السكك الحديدية وإتلاف الخطوط وسرقة الحديد مثال إضافى، فساد المحليات مثال قديم متجدد، ناهيك عن ضيق الحكومة بأكثر من مليونى موظف يمثلون عبئا غير منتج على الجهاز الإدارى للدولة (وفقا لتصريحات مسئولة).
***
قلت من قبل فى هذا المكان إن الدولة مدير فاشل، وفى مصر لايزال الفشل مقترنا بفساد كبير علينا محاربته بقوة قبل البحث عن حلول خارجية سهلة لأزماتنا المزمنة مثل القروض والمعونات، وقبل تحميل المواطن البسيط تكلفة كل من الفساد والفشل فى صورة رفع لأسعار الخدمات بعد تحريرها من الدعم وقبل تحريرها من انعدام الكفاءة الذى يضيف إلى التكاليف أكثر كثيرا من قيمة ذلك الدعم. الفساد والفشل يتسببان إذن فى رفع تكاليف المعيشة وإفقار الوطن والمواطن بصورة كبيرة ومتسارعة، ولن نتمكن من تقدير ثرواتنا الفعلية وفقرنا الفعلى أيضا إلا بعد سد كل الثقوب التى يهدر منها المال العام ويفر بسببها المال الخاص، كيف لسيارة أن تسير قدما بخزان وقود مثقوب؟! وإذا تقدمت بضع خطوات فسوف تتعطل حتما قبل الوصول إلى مقصدها.
البعض تصوّر أن المشروعات القومية يمكن أن تصبح فى ذاتها مشروعا قوميا للنهوض بالبلاد! هذا أمر لا يصمد أمام أى منطق اقتصادى سليم، ومحاولة جمع تلك المشروعات المتناثرة جغرافيا ونشاطا وتمويلا فى حزمة واحدة لتبدو برنامجا حكوميا ذا رؤية لم تفلح فى رأيى، نظرا لكونها لم تبن على رؤية اقتصادية سابقة، بل صممت الرؤية لاحقا لتوضع أمام المشروعات كما توضع العربة كثيرا أمام الحصان.
منذ أيام صدر ما سمّى بالدراسة عن مرفق مترو الأنفاق قدّرت تكلفة تذكرة المترو بـ25 جنيها! فإن صدق تقدير الدراسة للتكلفة الفعلية فكم جنيها يهدر بسبب سوء الإدارة؟ وكم يهدر فى رواتب ومكافآت غير مستحقة؟ وكم يهدر فى غياب الصيانة وضعف مستويات الرقابة؟.. ما ذكرته من قبل عن حرص وزارة الكهرباء على دعم الفشل قبل رفع الدعم الممنوح للمواطن ينطبق هنا أيضا، والبحث عن مخرج لكل أزمة فى جيب المواطن لن يجدى نفعا فى الأمدين المتوسط والطويل، بل على العكس سيؤدى إلى مزيد من الإفقار للشعب وتراجع الاستهلاك ومن ثم تراجع معدلات النمو التى هى محفّزة بالاستهلاك فى بلدنا.
***
إذا كان لديك الوقت كى تقرأ هذه السطور، فأرجوك لا تضيّع وقتك فى محاولة تصنيفها هى أو كاتبها، بل حاول أن تفكر فيها بموضوعية، وأن تتخذ حيالها موقفا إيجابيا أيا كان موقعك من اتخاذ القرار، لأن قرارك الفردى بتحقيق ذاتك مرتهن بإرادتك لتحسين قدراتك وصحتك وحماية نفسك وأولادك، وكل ذلك رهن بصوتك فى أى انتخابات قادمة، خصوصا أن الإقبال الضعيف فى الانتخابات التشريعية قد أتى بمجلس ينفق معظم وقته فى بحث امتيازات أعضائه، ويفرض الضرائب على الشعب بينما يعفى أعضاءه منها!. أما إذا كنت فى دائرة صنع أو اتخاذ القرار فليس أقل من التقييم العادل للسياسات التى تنتهجها الحكومة الحالية، ووضع أهداف قابلة للقياس لتحسين أحوال المواطنين قبل مناشدتهم بالتضحية بما لا يملكونه من الأساس!.
أعتقد أن الدعوة المخلصة التى أطلقها البعض لإعادة بناء مصر على أسس جديدة، قد أساء البعض الآخر استغلالها للترويج إلى إعادة بناء نموذج متفرّد وغريب للدولة المصرية، كأنها لم تكن قائمة من قبل! أو أنها بحاجة إلى اختراع خاص لاحتواء طبيعتها الشاذة! أو أن اقتصادها يمكن أن يقوم على نماذج مبسّطة مخلة ببديهيات علم الاقتصاد.
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر
اقتباس
إن المشروعات القومية الأولى للدولة تبنّيها يجب أن تكون تطوير التعليم الأساسى وتطوير الخدمات الصحية ورفع أمن وسلامة الطرق، يجب أن تتخذ من الإنسان سلامته وعقله وصحته وسائر مقومات التنمية البشرية هدفا أسمى وأولوية عاجلة.