عقلية جديدة لا تحكمها مبادئ ولا قيم
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الخميس 29 أغسطس 2019 - 10:30 ص
بتوقيت القاهرة
حاولت عبر السنوات القليلة الماضية فهم أسس وتركيبة ومنهجية عقلية بعض المسئولين والكتاب والإعلاميين فى بعض بلدان الخليج العربى، وذلك من خلال محاولة فهم تصريحاتهم وكتاباتهم ورسائلهم التى يرسلونها عبر شبكات التواصل الاجتماعى. ولأن عقلية الإنسان محكومة بمبادئ مثل العدالة والمساواة والحرية وبقيم مثل الموضوعية العلمية فى النظر للأمور والتعاضد الإنسانى فى النظر لرزايا ومآسى الآخرين والالتزام بثوابت تهم الأمة، فقد حرصت على أن أفتش عن نوع المبادئ والقيم التى تضبط تصريحات وكتابات ورسائل ذلك النفر من مسئولى ومثقفى الخليج العربى.
لقد تبين لى أن المبادئ والقيم التى تحكم عقلية هؤلاء غير إنسانية، وغير أخلاقية، وغير موضوعية، ولا تحترم ثوابت هذه الأمة. وبالتالى فإن ما يقود عقلية هؤلاء لا صلة له بالمبادئ والقيم، وإنما هو خليط من ممارسة النفعية الوصولية الزبونية المادية والانتهازية السياسية ــ الاجتماعية فى عبثية التسلق والظهور الإعلامى المؤقت الرخيص أو التفاخر بالاستقلالية الذاتية الرافضة للالتزام بمصالح وحقوق غيرها.
لنأخذ مثالا الموضوع الفلسطينى. مأساة الغياب التام لأى مبادئ أو قيم قومية أو تضامنية، أو إنسانية أو أخلاقية تظهر فى أقوال وكتابات وتصرفات لأفراد من تلك الجماعة، أشار إلى بعضها الكاتب الإماراتى العروبى المرحوم «حبيب الصايغ» فى مقال نشرته جريدة الخليج الإماراتية منذ بضعة أيام.
لقد أشار بالاسم إلى العديد من الإعلاميين الخليجيين الذين زاروا الكيان الصهيونى بترتيب ومباركة من قبل السلطات الصهيونية فى تل أبيب، وإلى الإعلاميين الذين قبلوا إجراء مقابلات مع القنوات التلفزيونية الصهيونية وإعلان بعضهم بأنه لا مشكلة سياسية لنا مع الكيان الصهيونى الاستيطانى. وفى كل يوم تتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعى عبارات الإعجاب بجيش الاحتلال الصهيونى، وكلمات التغزل والحب لذلك الكيان وصرخات الكراهية والاحتقار السمج للشعب العربى الفلسطينى.
القائمة طويلة وعبقرية التفنن فى انتقاء الكلمات البذيئة بحق الإخوة الفلسطينيين لا حدود لها.
نحن إذن أمام عقلية لا تلتزم بمبدأ العدالة عندما تقبل بأن يأتى برابرة أغراب ويحتلوا أرضا سكنها أناس عبر آلاف السنين، ويخرجوا أولئك البشر، قسرا وعنوة، إلى المنافى والملاجئ، ويبقوا الذين لم يتركوا أرضهم فى سجن كبير يمارس فيه القمع والإذلال والتجويع، ويعتمدوا فى كل ذلك على قوة استعمارية أمريكية تسخر كل إمكانياتها المالية والسياسية والعسكرية لتجويع وإذلال وقهر الملايين من الفلسطينيين.
نحن أمام عقلية لا تلتزم حتى بقيمة الأخوة الإنسانية والوقوف مع المظلوم فى وجه الظالم.
نحن أمام عقلية لا تحكمها حتى التزامات العروبة التضامنية ولا حتى الرفض الساكت غير المعلن لاحتلال جزء من الوطن العربى الكبير. نعم، هذه مجموعة صغيرة جدا سينبذها المجتمع إن عاجلا أو آجلا، وسيرفض أن تنتقل عدوى عقليتها المريضة إليه. لكن الطامة الكبرى فى أن يقرأ الإنسان مقابلة مع كاتب أمريكى متخصص فى الشأن العربى ــ الصهيونى، المؤلف نورمان فنكلستاين، بشأن ما يسمى «بصفقة القرن» يوجه السائل إلى المؤلف السؤال التالى: ترى من يستفيد من هذا المشروع الملىء بألف علة سياسية وفضائح أخلاقية ظالمة؟ أهى أمريكا أم « إسرائيل»؟ يصفعك الجواب من شخص كتب عن الموضوع كثيرا من المقاولات والكتب، وبالتالى بالغ الاطلاع «لا أمريكا ولا إسرائيل»، بل إنها جهة خليجية تسعى لقيام حلف صهيونى ــ أمريكى ــ عربى.
لا يهمنا إن كانت الإجابة صحيحة أم خاطئة، فكونها تذكر بهذه الصورة المباشرة المفجعة يجعلنا نشعر بأننا ما عدنا هنا أمام عقلية أفراد. إننا أمام عقلية سياسية لا تحكمها مبادئ ولا قيم ولا التزامات قومية، إن صح ما قاله المؤلف.
لقد كتبت من قبل وتحدثت عن الظاهرة الخليجية فى تعاملها مع امتدادها العربى بخفة وسوء تقدير. لكن، شيئا فشيئا، تتسع «الفجوة» لنجد أنفسنا أمام فوضى عقلية سياسية بامتياز.
لنأخذ، كمثال ثان، تعامل بعض المثقفين الخليجيين مع موضوع محاولات العودة لتجزئة القطر اليمنى إلى دولتين أو أكثر.
لقد قرأنا كتابات واستمعنا إلى أحاديث ترى أن تاريخ اليمن الحديث وتكويناته القبلية والمذهبية تجعل من محاولات الانفصال والتجزئة أمرا معقولا من أجل استقرار اليمن فى المستقبل.
لا يمكن للإنسان أن يرى فى تلك الكتابات والأحاديث فقط عرضا لوجهات نظر.
مرة أخرى، نحن أمام نفس العقلية التى تتعامل مع مأساة عربية فى اليمن بعقلية ترفض أن يحكمها مبدأ ضرورة الوحدة العربية فى وجه الأطماع والمخاطر الهائلة التى تتعرض لها الأمة العربية فى الجحيم الذى يعيشه حاليا الوطن العربى كله.
وبدلا من تقديم المقترحات لتغيير مسار النمط السياسى الاستبدادى اليمنى السابق، والذى قاد إلى رغبة البعض فى الانفصال، ينصب هذا البعض نفسه داعيا لمسار تجزيئى سيقود إلى ضعف وتشرذم واستباحة اليمن فى المستقبل، ليضاف اليمن إلى ما حل بالسودان وفلسطين وإلى ما يراد أن يحل بسوريا والعراق وليبيا، وبعده ما سيحل بالآخرين النائمين حاليا فى الخدر والكذب على النفس.
مرة أخرى تطل العقلية الجديدة برأسها بعد أن تخلت عن المبادئ والقيم والآمال القومية.
كتبت هذا المقال، وأنا مدرك لحساسيته لدى البعض، بروح المحب لوطنه، المشفق على أمته، العاتب على ذلك النفر، ومنهم الأصدقاء والمعارف، لانخراطهم فى أقوال وأفعال لا تقرها أخوة ولا تقبلها مبادئ وقيم.