اقتصاديون بين الحكمة والتشاؤم
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 29 سبتمبر 2025 - 6:00 م
بتوقيت القاهرة
مع تقدّم العمر، يتحول بعض محللى وخبراء الاقتصاد إلى أبواق للتشاؤم المفرط، يكررون التحذيرات نفسها من انهيار شامل وشيك، وينتقدون كل السياسات دون استثناء، ويصرون على رسم المستقبل بألوان قاتمة مهما تحسّنت المؤشرات. وتتسع هذه الظاهرة لتشمل خبراء فى مصر والعالم العربى كما فى الغرب، حيث يزداد الحضور الإعلامى للأصوات الناقدة كلما ارتبطت بالتوقعات السوداوية أو نبوءات الكوارث.
يرتبط ذلك بما عاشه هؤلاء الخبراء فى شبابهم من تجارب صادمة تركت آثارًا عصية على الزوال. فمن شهد الكساد العظيم -مثلاً- ظل مشدودًا إلى أطيافه فى كل تحليل لاحق، ومن عاصر موجات التضخم الجامح فى السبعينيات لم يتحرر منها حتى بعد أن تبدّلت البنى الاقتصادية والمالية على المستوى العالمى. ويشير علم النفس المعرفى إلى ما يُعرف بـ«الانحياز للمرساة»؛ حيث يبقى العقل مشدودًا إلى تجربة ماضية يستخدمها كمرجع دائم مهما اختلفت الظروف. «جورج سوروس» مثال بارز، فعلى الرغم من عبقريته فى عالم المضاربات، فقد اشتهر لاحقا بميله لرؤية فقاعة فى كل صعود للسوق، وكأن «الأربعاء الأسود» عام 1992 أصبح عدسته الثابتة لتفسير العالم. ويعزز هذا الميل ما كشفه «كانيمان» و«تفيرسكى» عن «الانحياز للتوافر»؛ حيث تفرض الأحداث الصادمة نفسها على الذاكرة بسهولة أكبر من فترات الاستقرار، فيعمد الخبير المخضرم إلى تضخيم احتمالات الأزمات مقارنة بفرص النمو أو الصلابة.
• • •
يعزز التقدم فى العمر هذه النزعة على نحو ملحوظ، إذ تشير الدراسات النفسية إلى أن كبار السن يميلون إلى ما يُعرف بالاستعداد الدفاعى للتشاؤم، أى تهيئة النفس للأسوأ تحسبًا لتخفيف صدمة وقوعه. ويبدو أن المحلل الاقتصادى حين يبلغ هذه المرحلة العمرية يسقط هذا الميل على قراءته للأسواق والسياسات، فيبالغ فى تقدير المخاطر المقبلة، ويتغافل عن الابتكارات والتحوّلات القادرة على قلب المعادلة.
يدفع السعى إلى استعادة المعنى بعد التقاعد أو الابتعاد عن المواقع التنفيذية بعض الخبراء إلى هذا المسار أيضًا. فمن اعتاد التأثير المباشر فى دوائر صنع القرار قد يجد نفسه فجأة على الهامش، فيلجأ إلى تثبيت حضوره عبر تبنى نبرة الناقد الدائم. ويمنحه النقد السلبى ما يفتقده من اهتمام، خاصة وأن الإعلام يضفى على العناوين السوداء صدى يفوق بكثير ما تحظى به التحليلات المتوازنة. وهكذا تكتمل معادلة السوق الإعلامية التى تكافئ التشاؤم وتضخم قيمته بما يتجاوز حجمه الفعلى.
يضيف الاقتصاد السلوكى تفسيرًا آخر عبر ما يعرف بـ«انحياز الخسارة»، فالإنسان عمومًا يميل إلى الخوف من الخسارة أكثر من تطلعه للمكاسب. وعندما يتقدم المحلل فى العمر، يصبح هذا الميل أشد وضوحًا، فيرى الخطر فى كل فرصة، ويعتبر أى نمو مهددًا بالانهيار القريب. وهذا يفسر كيف خرجت بعض التقارير عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008 أكثر تشاؤمًا مما يقتضيه الواقع، متجاهلة أثر السياسات النقدية غير التقليدية والإصلاحات المؤسسية التى أعادت للأسواق جزءًا كبيرًا من استقرارها.
تتبدّى هذه الظاهرة بجلاء فى أمثلة عالمية شهيرة. فنوريل روبينى، المعروف بلقب «دكتور الهلاك» (Dr. Doom)، أصاب فى توقّعه لأزمة عام ٢٠٠٨، غير أنّه ظلّ لاحقًا يتنبأ بأزمة مماثلة كل عام تقريباً!، الأمر الذى جعله فى نظر كثيرين أسير توفيه السابق. أمّا جوزيف ستيجليتز، الحائز على جائزة نوبل، فقد طغت على كتاباته الأخيرة نبرة نقدية حادّة تكاد تشمل السياسات الأمريكية برمّتها، إلى حدّ يراها بعض المراقبين أقرب إلى خطاب تشاؤم عام يغفل أحيانًا نقاط القوّة فى الاقتصاد. ولا يختلف المشهد كثيرًا فى الساحة العربية، حيث يتحوّل بعض الخبراء مع مرور الزمن إلى أصوات لا تفتأ تتنبأ بالخراب والثورات، مهما تبدّلت السياسات أو ظهرت بوادر إصلاح.
تترك هذه النزعة آثارًا عميقة على الجمهور وصناع القرار. فالمستثمر الذى يتلقى تحذيرات متكررة بلا سند قوى قد يحجم عن ضخ أمواله، فيضيع على الاقتصاد فرصًا حقيقية للنمو. وصانع القرار الذى لا يسمع سوى أصوات معترضة بلا بدائل عملية، قد يفقد ثقته فى التحليل الاقتصادى برمته. وفى الوقت ذاته، يواصل الإعلام تضخيم تلك الأصوات لأنها تثير الجدل وتجذب الانتباه، فتترسخ حالة التشاؤم فى الوعى العام وتتحول إلى عدوى جماعية يصعب مقاومتها.
لا ينبغى أن تتحول الخبرة، رغم قيمتها، إلى عبء يمنع الخبير من رؤية الواقع كما هو. يؤكد الباحثون فى الاقتصاد السلوكى أن التحيزات المعرفية لا تزول بالخبرة، بل قد تتفاقم؛ لأن صاحبها يجد لها مبررات من تجاربه الماضية. لذلك يصبح من الضرورى أن يخضع المحللون الكبار لمراجعة من أقران أصغر سنًا، لضمان بقاء التحليل الاقتصادى أداة لفهم المستقبل بدلًا من أن يكون أسيرًا لماضٍ بائس.
• • •
تتطلب مواجهة تلك الظاهرة وعيًا بالانحيازات النفسية والسلوكية، وتدريب الخبراء على رصد انحيازاتهم الذاتية، وتوسيع قاعدة المعلومات لتشمل تجارب ناجحة لا تقتصر على الكوارث الماضية. كما أن دمج الأجيال فى منصات التحليل يمنح رؤية أكثر توازنًا، ويخلق حوارًا بين الحذر المشروع والتفاؤل المبرر. أما الإعلام فعليه واجب مضاعف، إذ لا يكفى أن يبحث عن الإثارة بالعناوين المزعجة، بل يجب أن يفسح المجال لقراءات أعمق تعكس الواقع بتعقيداته.
ليس التحوّل إلى التشاؤم المفرط قدرًا محتومًا لكل خبير يتقدّم فى العمر، لكنه يبقى نزعة نفسية وسلوكية تتغذّى على تجارب الماضى وانحيازات الحاضر وضغوط السوق. والإقرار بوجودها ثم السعى إلى مقاومتها أمر ضروري، إذ ينبغى أن يظل التحليل الاقتصادى أداة لفهم الواقع واستشراف المستقبل، لا أن ينقلب إلى نبوءة مزعجة تتكرّر حتى تفقد معناها وقيمتها.
يتجاوز أثر التشاؤم المفرط حدود علم الاقتصاد ليشمل مجالات الفكر والفلسفة وسائر العلوم، حيث يظهر الميل إلى إبراز الجانب المظلم مع التقدم فى العمر أو بعد تجارب طويلة مع الأزمات والخسائر. فعلى سبيل المثال، نجد «سيجموند فرويد» وقد تحول فى سنواته الأخيرة من طبيب يؤمن بقدرة التحليل النفسى على التحرر، إلى مفكر يكتب عن «غرائز الموت» و«بؤس الثقافة»، وكأن تجربته مع المرض والحروب الأوروبية جعلته أسيرًا لرؤية أكثر قتامة. وعلى نهج قريب سار الفيلسوف «مارتن هايدجر»، الذى انشغل فى فلسفته المتأخرة بمفاهيم العدم والموت، بما أضفى على كتاباته الأخيرة نغمة بائسة، لم تعرف فى نصوصه الأولى.
الأمر نفسه يمكن ملاحظته عند علماء معاصرين مثل «ستيفن هوكينج»، الذى رغم رمزيته كقدوة للتفاؤل العلمي، بدا فى سنواته الأخيرة أكثر تحذيرًا من أخطار الذكاء الاصطناعى وإمكان اندثار البشرية، وكأنه لم يعد يكتفى بالحديث عن آفاق العلم بقدر ما يركز على كوابيسه. كذلك انتهى المؤرخ البريطانى «أرنولد توينبى» إلى رؤية متشائمة لانهيار الحضارات، بعدما بدأ مسيرته الفكرية واثقًا من قدرة الإنسان على تجاوز الانكسارات. وفى الأدب، تحوّلت نصوص «ألبير كامو» من بحث عن معنى فى عبثية الحياة، إلى نزعة أكثر تشاؤماً، تتأرجح بين الدفاع عن الأمل والوقوع تحت وطأة الأسئلة الوجودية.
مثل تلك التحولات تكشف أن التشاؤم مع تقدّم العمر ليس حكرًا على الاقتصاديين، بل هو ظاهرة نفسية وسلوكية عابرة للتخصصات، تتجذر فى «انحياز الخسارة» كما يصفه الاقتصاد السلوكى؛ حيث يُعطى العقل وزنًا أكبر لتجارب الخسارة والمعاناة مقارنة بالنجاحات أو الإمكانات المستقبلية. إنها آلية دفاعية قد تبدو عقلانية من وجهة نظر أصحابها، لكنها فى الواقع تعكس أثر تراكم الذاكرة السلبية على التقدير الموضوعى للفرص المقبلة.