بلى.. وكلَّا.. وألف كلَّا والله.. ستقوم دولة فلسطين!

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الإثنين 29 سبتمبر 2025 - 6:00 م بتوقيت القاهرة

توجد فى اللغة العربية -كما فى اللغات الأخرى- كلمات تحمل أكثر من معنى، وهذه ظاهرة لغوية اسهما «تعدد المعانى» أو «تعدد الدلالات» (polysemy)، وتختلف معانى هذه الكلمات حسب السياق الذى تُستخدم فيه، وكلمتنا فى مقالنا هذا هى «كلَّا».

بداية، اختلف النُحاة فى توصيفها، أهى حرف أم اسم؟ وأما عن معناها، فلها معنيان رئيسيان: الأول أنها حرف يفيد الردع والزجر، بمعنى «لا» مع شدة فى النفى، وزيادة فى تأكيد الإنكار، وعلى سبيل المثال، إذا سألك أحد: «هل سرق محمد القلم؟ « فأجبت: «كلا»، فهذا يعنى «لا، لم يسرق محمد» (بالتأكيد)، كما فى قوله تعالى: «كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب (العلق: 19)، والمعنى هنا قول الله سبحانه لنبيه ﷺ لا تُطع الشيطان فيما دعاك إليه من ترك الصلاة، واسجد واقترب إلى الله بالطاعة والعبادة، وأيضًا كقوله عز وجل: «أَيَطْمَعُ كلُّ امْرئٍ منهم أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعيم كلَّا» (المعراج:38)، وهذا استفهام إنكارى للسخرية من طمع الكافرين فى دخول الجنة دون عمل الصالحات، وتفيد بأنهم لن يدخلوها، أَى لا يَطمَع أى إنسان فى الدخول للجنة إلا بالعمل الصالح!

والمعنى الثانى: أنها حرف جواب بمعنى «حقًا» أو «من المؤكد» مثل «بلى» (نفى النفى الذى يفيد الإيجاب)، وتفيد تحقيق وتأكيد المنفى، ويتبعه قسَم، فعلى سبيل المثال، إذا قال أحد: «لم يسرق محمد القلم»، فيرد آخر: «كلّا والله سرق»؛ وكما فى قوله تعالى فى سورة المدثر عندما شكك الكافرون فى عدد الملائكة حُراس النار، وأنكروا وجود النار: «وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سَقَرُ (النار) (...) عَلَيۡهَا تِسۡعَةَ عَشَرَ (حارس)، (27&30)، فكان جواب الله على إنكارهم بقوله: «كَلَّا وَٱلۡقَمَرِ» (32)، و«كلَّا» هنا تعنى «حقًا»، فهى تنفى ما ينكره الكافرون حول عدد التسعة عشر من جنود الله للنار (نفى النفى)، خاصة عندما يتبعها الله تعالى بالقسم «والقمر»، فقسَمه سبحانه يُؤكد بطلان ما ينكره الكافرون، ففى هذا الاستخدام، تكون «كلا» حرف جواب يفيد تحقق الشىء والتأكيد على صحته وعدم التشكيك فيه، وبهذا تعنى «حقًا»، وزيادة فى التأكيد على نفى ما ينفيه الكافرون، أتبع الله قسمه بقَسَمين متتاليين: («وَٱلَّيۡلِ إِذۡ أَدۡبَرَ، وَٱلصُّبۡحِ إِذَآ أَسۡفَرَ» (33-34.

وأما بالنسبة لكلمة «بلى»، فهى حرف جواب يُستخدم – كما سبق القول- لإبطال النفى فى سؤال، ويفيد عكس «نعم»، على سبيل المثال، إذا سُئل شخص «ألستَ راغبًا فى المساعدة؟»، فإن كان الجواب بـ«بلى» يكون المعنى: «بلى، أنا راغب فى المساعدة»، أما إذا كان الجواب بـ«نعم» فهى تُقر بالنفى الموجود فى السؤال، وهذا يعنى: «نعم، أنا لا أرغب فى المساعدة»!

وخلاصة القول، فإن كلمة «كلا» أداة تحمل معنى الردع والزجر فى سياق الإنكار أو النفي، كما فى المثل الأول، وتفيد تحقيق الأمر فى سياق التأكيد، وتكون مقرونة بقسم – كما فى المثل الثاني-، وهى مثل "بلى" التى لا يشترط  اقترانها بقسم، كما فى قوله تعالى: «قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ» (التغابن:7) لنفى زعم الكافرين أنهم لن يُبعثوا.

هذه المقدمة اللغوية تمهيد لموضوعنا السياسى البحت.

• • •

نظرًا لعربدة الكيان الصهيونى منذ حوالى عامين، ونظرًا للمجاعات والمجازر والإبادات الجماعية التى تقع فى غزة، ونظرًا لإحساس العالم– شعوبًا وحكومات- بأن إسرائيل وحكومتها المتطرفة قد أصابها غرور مرضى جعلها تشعر بإحساس كاذب ووهم خادع بأنها أصبحت قوة لا تقهر، وذلك بسبب  التأييد الأعمى والمطلق من الرئيس الجديد للولايات المتحدة دونالد ترامب، فقد قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة عقد اجتماع فى 28-30 يوليو 2025 لوزراء خارجية العالم لبحث القضية الفلسطينية، وقد تم فيه الموافقة على حل الدولتين (الفلسطينية والإسرائيلية) بأغلبية 142 صوتا لصالح القرار ضد 10 وامتناع 12 دولة، وقد سُمِّى هذا الإجتماع بـ«إعلان نيويورك»، واحتوى على 42 بندًا من أهمهم البندان السادس والعاشر.

وينص البند السادس على «اتخاذ خطوات ملموسة، محددة زمنيًا، ولا رجعة فيها للتسوية السلمية لمسألة فلسطين وتنفيذ حل الدولتين، من أجل تحقيق (...) قيام دولة فلسطين مستقلة ذات سيادة، قابلة للحياة اقتصاديا وديمقراطية، تعيش جنبا إلى جنب بسلام وأمن مع إسرائيل (…)».

وينص البند العاشر على أن «غزة جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية ويجب توحيدها مع الضفة الغربية، ولا بد من عدم وجود احتلال أو حصار أو تقليص للأراضى أو تهجير قسرى». 

وبناء على هذا الإعلان، اتفقت فرنسا والسعودية على عقد مؤتمر برعايتهما بالدورة الثمانين للجمعية العامة فى 23 سبتمبر 2025، لإعلان اعترافهما بدولة فلسطين، ووصل عدد المعترفين إلى أربع عشرة دولة، وهم من أهم الدول الغربية الداعمة لإسرائيل: بلجيكا والبرتغال وأستراليا وكندا ومالطا وروسيا...، ولا سيما المملكة المتحدة (بريطانيا) صاحبة وعد بلفور (1917)، فضلًا عن الصين والهند والأرجنتين...!

• • •

هذه المؤتمرات تعكس حالة الانتفاضة العالمية والفريدة، كما أنها لم تأت من فراغ، ولكنها جاءت نتيجة تضحيات وكفاح ونضال مستمر من الشعب الفلسطينى، وظلم وقع عليهم لم يحدث مثله فى تاريخ البشرية الحديث، فالاعتراف بالدولة الفلسطينية لم يحدث مجاملة، ولكنه - كما صرح أنطونيو جوتيريش أمين عام الأمم المتحدة- بأن «الدولة الفلسطينية حق وليست مكافأة»، فقد بدأ هذا الحراك والإجماع الدولى الكبير أساسًا بعد أحداث مقاومة 7 أكتوبر 2023، وفى هذا الصدد يجب أن نُذكر بأن دومينيك دو فيلبان رئيس الوزراء الفرنسى الأسبق، قال فى إحدى مناظراته التليفزيونية -بعد 7 أكتوبر- أن إسرائيل إن لم تستطع تقبل السلام فلا بد من «مساعدتها» على ذلك، وهذا ما يفعله ماكرون الرئيس الفرنسى الحالى الذى يقود أوروبا والغرب بأكمله لدفع إسرائيل نحو السلام!

بلا أدنى شك، ورغم أن هذه الاعترافات المتتالية بالدولة الفلسطينية رمزية، إلا أنها تأتى فى لحظات وظروف عالمية استثنائية، من الصعب أن تتكرر فيما بعد، فوجود الرئيس ترامب الذى جاء رئيسًا فى المرة الثانية حدث استثنائى، فقد جاء بدعم واضح من الصهيونية العالمية حيث لا يُعقل أن تسمح الولايات المتحدة بترشيح رئيس لها وهو مدان بعشرات الأحكام القضائية المخلة بالشرف وبالأمانة وبالتهرب الضريبى وبالتحرش الجنسى وبالتحريض على العنف ودعم صريح لمتظاهرين بالهجوم على مبنى الكابتال للاعتراض على نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2021 التى رسب فيها...، كما أنه مصادفة استثنائية أن يأتى رئيسًا فى الفترتين مع أكثر رئيس وزراء إسرائيلى متطرف ومتعصب ومكروه من كل رؤساء العالم بما فيهم رؤساء الولايات المتحدة عدا ترامب! 

• • •

أفرزت هذه الأوضاع الاستثنائية نتائج أيضًا استثنائية، من أهمها منع ترامب حضور الوفد الفلسطينى برئاسة الرئيس محمود عباس لإلقاء خطابه بالجمعية العامة فى مخالفة صارخة لمواثيق الأم المتحدة؛ ظهور مائة عضو من الكونجرس يعارضون مناصرة رئيسهم ترامب المطلقة لنتنياهو؛ احساس الإسرائيليين بأنهم أصبحوا فى عزلة عن العالم أجمع (ومشهد انسحاب معظم وفود الجمعية العامة لحظة إلقاء نتنياهو خطابه دليل قاطع على العزلة)، كما أن جزءًا كبيرًا من الإسرائيليين يرفضون توجهات رئيس وزرائهم خاصة أهالى المحتجزين لدى حماس!

ومن ناحية أخرى، نلاحظ أن رفض ترامب ونتنياهو لإقامة الدولة الفلسطينية قرار «شخصى»، بينما الموافقة على الاعتراف بدولة فلسطين جاء من «مؤسسات» (حكومات ودول العالم)، لتصبح موافقات رسمية، هكذا كل ما يحدث فى العالم فى الوقت الحالى هى قرارات وأوضاع استثنائية من طرف يُقابلها قرارات وأوضاع أيضًا استثنائية من الطرف الآخر، وهذا دليل على حدة المواقف وتأرجحها مما يشير للتطور الاستثنائى فى مواقف دول العالم تجاه القضية الفلسطينية، وضد شخصين غريبين ومنحرفين فى توجهاتهما!

ورغم أن هذه الاعترافات شىء، وقيام الدولة الفعلية شىء آخر، فثمة كثير من المسائل ما زالت فى الإطار النظرى، وأن المشاورات بشأنها لم تتوصل بعد إلى نتائج نهائية، إلا أن رد الفعل الإسرائيلى ــ فى أعقاب سلسلة الاعترافات بالدولة الفلسطينية، وتصريحات الرئيس الفرنسى ماكرون ورئيس الوزراء البريطانى كير ستارمر فى الجمعية العامة ــ كان جنونيًا وهستيريًا، ولخصه نتنياهو ــ رئيس الوزراء الإسرائيلى ــ فى عبارته التى يكررها كل يوم وكل ساعة: «لن نسمح بقيام دولة فلسطينية»! 

ونحن نُذكر كل من يُعارض قيام الدولة الفلسطينية بأن المنطق والعقل السَّوى ودروس التاريخ بلا استثناء تؤكد أنه لا يصح إلا الصحيح فى نهاية المطاف، وأن كل ليل يتبعه فجر يأتى فى موعده، ونقول للرجلين الاستثنائيين فى تطرفهما ومُغالاتهما ما قاله الله سبحانه وتعالى لكل متكبر وكل ظالم: «وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا» (الإسراء:37)!

وردنا النهائى على عبارة نتنياهو التى تنفى قيام الدولة الفلسطينية، أولًا: «بلى» ستقوم دولة فلسطين؛ وثانيًا: نقول له زجرًا وردعًا، وزيادة فى التأكيد لإنكار نفيه لقيام دولة فلسطين، وبكل ثقة: «كلَّا» ستقوم دولة فلسطين؛ وثالثًا، نقول له: «ألف كلًّا» وبالله العظيم ستقوم دولة فلسطين قريبًا جدا إنه «لحق» لا شك فيه!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved