هيكل الذي يخصني
شريف عامر
آخر تحديث:
الإثنين 29 سبتمبر 2025 - 6:00 م
بتوقيت القاهرة
هل غاب محمد حسنين هيكل؟
موعد السؤال ضمن الإطار الزمنى الذى يعلن تجدد ذكرى ميلاده من كل عام، لكنه أيضًا سؤال يتجدد فى الخاطر عدة مرات فى اليوم الواحد أحيانًا.
• • •
بين ساعة الاستدعاء فى يوم مكتوب، وساعة الميلاد فى يوم محدد، ملأ محمد حسنين هيكل سنواته وسنوات من عاصروه، ومن جاءوا من بعده بالخبر والرأى والتأثير، والاختلاف، والاتفاق مع ما يطرح أو ما يمثل من أفكار وآراء.
• • •
نظرة واحدة على أيامنا الحاضرة تجعل السؤال صالحًا لمن يستدعيه مع كل ما نعاصر من أوقات عصيبة.
من غزة إلى منابع النيل، كان كل ما يُطرح قبل لحظة الانصراف الأخير من مخاوف وإشارات، نراها معالم تتشكل بعد مساحات من الزمن، وتتجسد على الخريطة التى انتمى إليها وعشق النظر إليها.
• • •
سيبقى ما طرحه محمد حسنين هيكل من أفكار وآراء وتخوّفات وإشارات إلى مواطن الخطر محل نقاش هادئ بين من يعرفون قدر الرجل، ونقاش متوتر وعصبى لمن لا يعرفونه أو اختاروا عمدًا ألا يعرفوه، وهذا شأنهم.
• • •
هذا ما ينطبق على «الأستاذ» وأثره العام، وفى ذلك أخذ ورد، وهجوم ودفاع، وتأييد ونقد، لكنه يبقى فوق كل ذلك الاستثناء، النموذج الذى لا يتكرر، ولا إشارات عن قرب تكراره.
هذا ما يخصه فى الدائرة العامة، وأنا فيه مثل كل من يهتم بالشأن العام.
• • •
لا أكتب اليوم عنه ضمن هذه الدائرة، ولا وفق ما ترك من أثر عام عميق.
استدعائى لهيكل الشخصى الذى يخصنى والذى أفتقد.
قد أمتلك بعض الحكمة فى فهم القدر المحتوم، لكنى لم أنجح أبدًا فى هضم مشاعر الافتقاد لأحباء أربعة، وأشعر بغضب عاجز دائمًا أن الموت اختصمنى بشكل مباشر فيهم.
• • •
صديق أول العمر حسين شريف إسماعيل. صديق منتصف العمر محمد حسنين هيكل. أمى المهندسة شريدان ذو الفقار، ثم أبى منير عامر.
وجود اسمه ضمن هذه القائمة يبدو غير منطقى لقارئ هذه الكلمات. ماذا جاء باسم محمد حسنين هيكل وسط هؤلاء؟
• • •
افتقاد صديق أول العمر مفهوم، وافتقاد الأم والأب طبيعي. لا أملك إجابة منطقية لهذا السؤال.
المقرّبون منى حاولوا تفسيره أيضًا. «أنت فين!؟» «أنا كنت فى الرواد عند الأستاذ هيكل». «ماشى يا سيدى».
هذه مكالمة دارت مع شقيق البدايات، ومديرى نصف عمرى الثانى محمد عبد المتعال، وهو لا يعرف أننى سمعته يقول لصديق آخر حاضر معه قبل انقطاع المكالمة: «شريف كان قاعد مع هيكل فى الساحل! هو أكيد لقى عند شريف حاجة تقرّب بينهم كده!».
• • •
كنت أحكى لمحمد فى مكالمتنا أننى استقبلت مكالمة صباحية من الأستاذ، وكان يعلم أننى فى الطريق للساحل، وأننى تلقيت منه تحذيرًا من التأخير على شكل نصيحة ودودة: «سُق على مهلك». تجاهلت النصيحة وأسرعت حتى ألحق بالمرور على الوالد فى مارينا، ثم العودة للرواد، والوصول فى الموعد.
• • •
أعلم أنه قال لى فى لحظة شديدة الدقة والخطورة فى الأسبوع الأول من يوليو 2013: «لا تعادِ أحدًا، لكن لا تتنازل عن مصداقيتك. هى رأسمالك الوحيد، وأثمن ما تملك، وأهم ما سيتم استهدافه فى هذه اللحظة وفى المستقبل».
• • •
أعرف أن حسن هيكل، وهو من بدأت صداقتنا عبر والده، قد اختلف معى فى لحظة ما عندما طلب منى كتابة فيلم تسجيلى قصير عن الأستاذ. «يا شريف أنت كاتب بعواطفك أوى!».
صحيح أننى أعدت الكتابة لتقليم عواطفي، وصحيح أننى اقتنعت بأنه عمل للعرض العام، عن هيكل فى صورته العامة، لكنى لم أكن سعيدًا.
• • •
أسرنى الرجل يوم قابلته للمرة الأولى فى صباح يوم من مارس 2011، وبداية فصل جديد فى تاريخ مصر. حدثنى عن مصر والعالم واللحظة، واستمع لى، لكن مشاعر الود التى يعرف هو كيف يرسل إشاراتها وصلتنى وأثارت دهشتى.
• • •
المشترك بين هيكل العام والخاص هو قدرة هذا الرجل العجيبة على التنظيم. يملك نظامه الصارم، ويفرضه بأدواته الشخصية مهما كان العالم والظرف من حوله عشوائيًا.
• • •
سمعت وقرأت له عمرًا قبل أن أقابله، ثم استمتعت برعايته التى غزلها بمودته الشخصية سنوات قليلة العدد، عظيمة الأثر.
فى أحد الأيام، قلت له: «هذا وقت مناسب لكلمة منك مرئية أو مطبوعة على أى منصة تختارها». رد قائلا «لا تتكلم عندما تكون المواقف سائلة ورمالها متحركة. قراءتها أو محاولة تفسير اتجاهها الآن صعب، ولا يجب أن تتحدث إلا بما هو دقيق».
• • •
بين الأستاذية فى الدائرة المهنية العامة، والأبوية الصادقة فى الدائرة الشخصية، كان يسألنى عن قرارات العمل، وعن دراسة الأبناء. يقول إنه مهتم بمتابعة انفعالات وجهى على الهواء، ويسألنى عن الجديد بخصوص حسين ابنى الذى سافر للدراسة فى بريطانيا. «خذ حسين وروح المتحف البريطانى. زيارة مهمة وبديعة».
• • •
كنت أستخرج رخصة سيارة جديدة، وقد عرف من قبل حبى للسيارات: «غير معقول! تقف فى النهار تطلع رخصة عربية، وعندك شغل مهم بالليل».
صوته فى أذنى الآن وكأنما كان يوقّع رحلة العمر فى لقائنا الأخير: «قلت كل اللى أنا عاوز أقوله».
بعدها بثلاثة أو أربعة أيام، جاءنى صوت أحمد هيكل العزيز ينقل لى سلامًا يريد الأستاذ توصيله لى، وقد تعمدت تجاهل أنه وداع وليس موعدًا محددًا قادمًا.
• • •
كل ما سبق أعلاه بعض شريط متناثر المشاهد مرّ على الذهن من مدخل سكنه على نيل القاهرة إلى الدور الرابع من أجل لقاء مع السيدة العظيمة هدايت تيمور.
بصدق شديد: كل ما سبق أعلاه جزء من افتقاد الرجل، وهو عندى أهم وأكبر من افتقاد الأستاذ.
نيل القاهرة يفتقدك يا أستاذ هيكل، وأنا أفتقدك معه.
موعدنا القادم سأحكى لك كيف افتقدناك ولماذا.