أين(فردة) الجورب؟
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 29 ديسمبر 2009 - 10:08 ص
بتوقيت القاهرة
ما أن يختليا بى إلا وتبدأ الشكوى. الزوجة وهى صديقة تشكو من الفوضى التى يشيعها زوجها فى البيت. الزوج وهو صديقى يشكو من النظام الذى تتقيد بسببه مواقع حاجياته، فكأنها الفوضى بل أسوأ.
عشت فترة غير قصيرة صاحبت خلالها عددا كبيرا من أساتذة الجامعات والصحفيين وتعرفت على عائلاتهم. كانت شكوى الزوجات، جميعهن، من أن أزواجهن، جميعا، توسعوا فى البيت يحتلون بالكتب والدوريات والصحف رفا بعد رف، وخزانة بعد خزانة، وأريكة بعد أريكة، وغرفة بعد غرفة، حتى الحمامات لم تفلت من عمليات الغزو والاحتلال. ولم تقتصر مشكلة أولئك النسوة على مظاهر الفوضى الضاربة واختفاء معالم ما غلا ثمنه من الأثاث والمفروشات تحت أكوام الورق، بل تفاقمت بحجة أن البيت أصبح غير قابل للتنظيف، فالغبار المتسلل من الشبابيك وصل إلى الرفوف واستقر بين الكتب، وأحيانا بين صفحاتها حتى تغير لونها وتآكلت أطراف صفحات من الدوريات والصحف. ولم يتبق سوى انتظار الحشرات.
ثم إن هذا الزوج الذى يذهب إلى عمله تاركا وراءه ملابس النوم على أرض الغرفة أو فى الحمام وملابس أخرى على الطريق بين الحمام وغرفة النوم ومنشفة على مقعد فى غرفة الطعام مجاورا للمقعد الذى جلس عليه وهو يتناول الإفطار، وجوارب، «فردة» متكورة فى مكان أحسن الظن أنها طارت إليه من بعيد و«فردة» اختفت، ومناديل ورقية مستعملة. أشياء كثيرة فى غير مكانها، كل منها يعبر عن لحظة بعينها، وكلها تصف رجلا.
****
ولما كان كيدهن عظيما، فقد أسرت إحداهن لى بأنها كثيرا ما تنتقم لنفسها ولبيتها بأن تقوم بنفسها، أو بمساعدة فتاة تدفع لها أجرا، بترتيب حاجياته وفق ذوق سليم ونظام واضح. قالت إنها سمعته ذات مرة يعترف لصديق له أنه يجد صعوبة بالغة فى الوصول إلى ما يريد من أغراضه إذا وقع تنظيمها وترتيبها، فقررت أن تقسو على نفسها قليلا وتخصص وقتا قبل عودته من العمل لتقوم بتصنيف الجوارب حسب اللون والقمصان حسب المناسبة والبدلات حسب الموسم. وكان عليها أن تتحمل كذلك هياجه فى صباح اليوم التالى وهو يبحث عن متعلقاته فلا يجدها حيث تركها بالأمس أو قبل يومين أو ثلاثة.
يزعم باحثون أن القضية فعلا خطيرة، لأنها هددت وما زالت تهدد استقرار عائلات كثيرة. والدليل على ذلك أنها حظيت باهتمام علماء النفس ومستشارى الزواج فكتبوا عنها كثيرا وطويلا. ويذهب الرأى بين بعض هؤلاء إلى اتهام الرجل بأنه يحاول بسلوكياته الفوضوية تأكيد مكانته فى البيت، ويعتبر الفوضى التى تسبب فيها دليل وجوده وحقا له كزوج، وربما يعتبرها مظهرا لإثبات رجولة يخشى أن تكون اهتزت بسبب خروج الزوجة إلى العمل ومشاركته الإنفاق على متطلبات العيش المشترك أو لتفوق المرأة عليه فى نواحٍ عديدة كان بعضها فى الماضى حكرا له.
يدافعون عن الفوضى. قال أحدهم ألم تقولوا لنا إن هناك نظرية علمية تفترض أن النظام الأمثل هو الموجود فى الفوضى، بدليل حالة الفوضى التى نرى معالمها كلما نظرنا إلى سماء ليلة صافية ولعلها الدليل العلمى المؤكد عن وجود نظام يحكم هذه الفوضى. على كل حال لا أظن أن امرأة واحدة بين كل من عرفت من نساء، اقتنعت بنظرية «النظام فى الفوضى» ولن يقتنعن.
تتعقد المشكلة عندما يكون بالبيت أطفال. ما يعرفه الرجل ويفخر به، أنه قدوة لأطفاله. فالأمهات مهما نهرن ورتبن وغضبن وذنّبن لن يفرضن على أطفالهن حسن الترتيب والنظام طالما أن فى البيت رجلا يعشق الفوضى. أضف إلى القدوة الميل الطبيعى لدى الأطفال للفوضى وخذ الحمام مثلا. فالطفل الذى ينشأ فى بيت يحتار فيه رواد الحمام أيهما أنبوب معجون الحلاقة وأيهما أنبوب معجون الأسنان، بعد أن تركهما رب البيت مفتوحتين وهما فى الأصل متشابهتان ومن إنتاج الشركة ذاتها، هذا الطفل يتعود على أن أحد واجباته الصباحية حل ألغاز عديدة خلفها فى الحمام أبوه قبل أن يغادر إلى عمله.
****
عرفت عائلة شاذة. الزوج فيها شديد الانضباط لا يتحمل وجود غرض من متعلقاته فى غير مكانه المخصص له. لا يؤمن بنظريات الفوضى أو بترتيباتها، يتعذب ويعذب من حوله كلما خرج إلى الشارع وقاد سيارته وسط زحام المرور والفوضى الشرسة السائدة فى كل ركن من أركان القاهرة وفى كل ممارسات أهلها. يتألم لرؤية منشفة على أرض الحمام، أو صحون بها بقايا طعام فى المطبخ أو ملاعق وشوك وسكاكين غير مرتبة فى خاناتها فى درجها. أما الزوجة فى هذه العائلة «الشاذة» فهى النقيض. ومع ذلك نجحا معا فى مواصلة مسيرة الزوجية على قاعدة «لك أرضك ولى أرضى».
أعرف أيضا عائلات تعايش قطباها. وعائلات أقامت فى داخلها جدارا فولاذيا يفصل بين الزوج والزوجة. وعائلات حل عليها التوتر محل السكينة والخصام محل الوفاق. عائلات من كل نوع ومشارب وأمزجة مختلفة تشترك جميعها كل صباح فى سؤال ينتظر إجابة لا تستحق كل هذا العناء، أما السؤال فهو أين «فردة» الجورب؟