الصمت أو بئس المصير!!
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 29 ديسمبر 2019 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
سألتهم المذيعة وابتسامة عريضة على وجهها المغطس فى المساحيق وكثير من علامات جراحات التجميل لا تزال واضحة على الخدود والشفتين.. تلك الخدود التى كانت ميزة عند البعض أصبحت الآن مشاعا بفعل الجراحين. لم تعد هناك ملامح خاصة ولكن ماذا يهم، الأهم أن السؤال كان حول الأمنيات كالعادة مع العد التنازلى لسنة اعتزمت الرحيل.. «ما هى أمنيتك للعام القادم؟»، لا تتردد تلك المواطنة البسيطة التى اصطادوها وهى تهم إلى بيتها منهية يوم طويل طويل من العمل، فتقول «كهرباء وماء»!!.. لا لا، هذه ليست الإجابة التى تسعى لها تلك المذيعة، فتعيد تكرار السؤال: «ما هى الأمنيات الخاصة بك أنت شخصيا؟»، لا تفهم السيدة البسيطة السؤال الذى أجابت عنه بوضوح شديد أو هكذا تراءى لها، تتلعثم وكأنها تقول ما الذى تريده هذه السيدة «الجميلة والرشيقة والمتحضرة والمحظوظة»، ثم تفكر للحظات وترد «وظيفة لابنى».. لا لا، هذه الإجابة خطأ أيضا وكأنها فى برنامج من سيربح المليون!! وجه المذيعة لا يدل على سعادة ولا حتى رضا.. تجيب بشكل سريع وكأنها تريد اختفاء تلك السيدة بإجاباتها «غير الموفقة».
***
تطالب المذيع فى الشارع الذى نزل ليصطاد المواطنين على غفلة غير مدرك هو وهى أن الغفلة هى اللحظة التى يكون فيها المواطن أو المواطنة أكثر صدقا والتصاقا بمعاناتهم.. يرى رجل من بعيد لا يبدو عليه التعب الكثير ولا الفقر ولا هو حتى محمل بما استطاع شراءه من احتياجات أسرته لذلك اليوم. يعتذر منه بابتسامة لأنه سيوقفه ولكنه يريد أن يشارك المواطنين فرحتهم وأمنياتهم بالعام الجديد.. يأتى جواب الرجل كالصاعقة على الاثنين ــ حامل الميكروفون والجالس فى ذلك الاستوديو الأنيق، فإجابة الرجل كانت واضحة: «ألا أعتاز الوقوف عند أبواب المسئولين أو عضو البرلمان الذى يمثل دائرتى لأحصل على أمر هو حقى وليس منية من أحد». لا لا، الإجابة غلط مرة أخرى.. يضيق خُلق المذيعة أكثر من ذاك الشاب الذى نزل للشارع ليؤدى دورها حتى لا تضطر للسير بالكعب العالى والعرق فيسيح المكياج... إلخ إلخ..
***
تهمس فى أذن السماعة التى وضعها زميلها وهو فى رحلة صيده السمين «ما تقدر تجيب أحد عدل»، والعدل حسب كل اللهجات العربية هو بمفهومها من يجيب حسب رغبتها ورغبة مدير البرامج، ثم صاحب المحطة ثم المسئول الذى تعبر عن رأيه أو موقفه أو الجهة!! ها هى سيدة أنيقة قادمة تحمل شنطة تبدو ثمينة ونظارتها الشمسية رغم أن الشمس قد اختفت خلف سرب من الغيوم الشتوية. كان جواب السيدة بعد تفكير طويل «سيارة بورش كيان هدية من زوجها وساعة رولكس و..».. لم تتوقف قائمة مطالبها فابتسمت المذيعة وصرخت فى أذنه خلاص انتقل لشخص آخر.. حتى هذه الإجابة لم تعجبها فهذا برنامج للمواطنين «البسطاء» ليعبروا عن أمانيهم، فهذه «الديمقراطية» على الطريقة العربية جدا.
***
يتصبب العرق فى يوم شتوى بجدارة وهو يعمل على إنجاح مهمته وكأنه يريد أن يصرخ فى تلك المذيعة المسترخية فى الاستوديو تحتسى القهوة كلما رحلت الكاميرا إلى الشارع المزدحم بالبشر، كل البشر ليس لشراء هدايا العيد التى هى الأخرى أصبحت حلما صعبا، بل للبحث عن ما قد يأتى ببعض الفرح الذى يشاهدونه على محطات التليفزيون المواكبة للحدث المنتقلة من عاصمة إلى أخرى، فرح لم يتعرفوا عليه بعد!!.
***
هناك شاب «حضارى» ببنطلون جينز ممزق على الموضة وشعره مصفف بتلك القصة المنتشرة الآن بين الأطفال قبل الكبار، فالشعر حليق على الجانبين أما منتصف الرأس فيترك الشعر كثيفا كثيفا.. يتبسم الشاب ويعدل من شعره تحسبا أن تكون حبيبته ممن يشاهدون هذا البرنامج المغرق فى التفاهة فى طريقة الإعداد وليس فى الهدف.. رد الشاب بحماس «أن أصبح مليونيرا.. غنى غنى أستطيع امتلاك ما يملكه الكثيرون فى عمرى من أولاد الأسر الغنية». تأتى ضحكة المذيعة الخبيثة التى لا يسمعها هو طبعا والموجهة للمشاهدين «طبعا اللهم لا حسد، أكيد أكيد لا أحد يريد أن يحسد الأثرياء الذين أنعم الله عليهم».. جيد أن الشاب لم يسمعها فربما كان قد انفجر من الغضب وسبها وكل طوائفها.
***
الإجابات كلها، كلها تمحورت فى الأمانى المتواضعة كهرباء، ماء، طبابة، تعليم، جنسية، كرامة.. كم أنتم متواضعون أيها المواطنون العرب.. كم أن أمانيكم لا تليق بأن تعرض على محطة تليفزيونية حداثية مع مذيعة كاملة الأناقة.. بل إنكم جاحدون، فحتى عندما يتعب أولئك ويحاولون أن يسمعوا صوتكم لا ترتقون إلى المستوى المطلوب، فلا عاجبكم برلمانيون «انتخبتوهم» ليرفعوا صوتكم ولا تعجبكم محطات وإعلام يعمل «بجهد» ليرتقى بكم.. كم أنتم جاحدون فلا تستحقون إلا أن تبقوا صامتين حتى آخر حبة تراب!!
كاتبة بحرينية