«داعش» اللبناني
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 30 يناير 2023 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
أُسوة بما جرى فى سوريا وعراق ما بعد عام 2011، ثم فى دول الساحل الأفريقى بحلول سنة 2017؛ تسنى لتنظيم «داعش» الإرهابى، إيجاد موطئ قدم تنظيمى له فى ربوع لبنان. وذلك من خلال الاستثمار فى الأزمات، والاستفادة من الإخفاقات، التى توشك أن تهوى بالبلاد فى غياهب الفشل والانهيار.
فى شهر سبتمبر الماضى، ومع اقتراب انقضاء ولايته نهاية الشهر التالى، أبى الرئيس اللبنانى، ميشيل عون، إلا قبول استقالة الحكومة، وإعاقتها عن مباشرة حقها الدستورى فى الاضطلاع بمهام رئيس الجمهورية، لحين انتخابه. كما عزف عن قبول العروض المتتالية، التى تقدم بها رئيس الوزراء المكلف، نجيب ميقاتى، بخصوص تشكيلة الحكومة الجديدة.
فى غضون ذلك، تم توقيف عناصر خلية داعشية فى جنوب البلاد، ثم أخرى، بمنطقة البقاع، خططتا لاستهداف مراكز للجيش ومواقع استراتيجية عديدة. وبالتوازى، كشف تقرير لصحيفة «لوفيجارو» الفرنسية، عن التحاق نحو 2000 لبنانى بصفوف التنظيمات الإرهابية فى سوريا والعراق. كما سلط الضوء على ما تمثله عودتهم من تهديد وتأجيج للاضطرابات التى تجتاح لبنان. وحذرالتقرير، من أن يفضى استمرار مشاركتهم فى ساحات القتال، أو تركهم فى غيابات السجون والمعتقلات، إلى استبقائهم فى براثن التطرف، وحملهم على الارتداد لنشاطهم الإرهابى. لاسيما وأن السلطات اللبنانية لا تزال مترددة فى إعادة الدواعش المعتقلين وعائلاتهم إلى وطنهم الأصلى؛ تحسبا لانعكاسات تلك العودة الجماعية على الأوضاع الأمنية والاجتماعية، بالغة التوتر والتعقيد.
من رحم الانسداد السياسى؛ الناجم عن امتداد الشغور الرئاسى، واستمرار العجز الحكومى والبرلمانى، وتوحش الفراغ المؤسسى، وغياب التوافق بين الفرقاء السياسيين، واستفحال التأزم الاقتصادى والارتباك الأمنى؛ خرج ما أطلق على نفسه «ولاية لبنان»، فى ديسمبر الماضى، معلنا بيعته لتنظيم «داعش»، وزعيمه، الحسين الحسينى القرشى. فيما يعد تدشينا للفرع الثامن عشر للتنظيم التكفيرى. فلقد شكل تدحرج لبنان صوب حافة الفشل، حاضنة مثالية، لتأسيس فرع «داعش» الجديد فى مخيم عين الحلوة، حيث يتمركز تابعون لقادة التنظيم فى سوريا والعراق. علاوة على إحياء حضوره السابق الممتد من عرسال، إلى العراق، مرورا بسوريا. توطئة لمواصلة عملية إعادة هيكلة الأفرع الداعشية، عقب تحرير مدينة الموصل من قبضته، فى سبتمبر 2017. ثم استكمال ما يُعرف «بالهلال الداعشى» أو «محور الشام الكبرى»،عبر ضم لبنان إلى جناح قوة ثلاثى مركزى؛ يشمل العراق، وسوريا، ولبنان.
منذ التحرر من ربقة المستعمر الفرنسى عام 1946، لم يتم، قانونيا، ترسيم معظم الحدود اللبنانية ــ السورية، التى تمتد بطول 375 كيلومترا، أو إخضاعه للمراقبة الدقيقة. ما أدى إلى بروز جيوب خارجة عن سلطة الدولتين، اتخذتها مجموعات مسلحة سورية ملاذا لها، هربا من ملاحقة قوات نظام الأسد وحزب الله. ما تمخض عن نشوء تداخل بين سكان بعض المخيمات السورية العشوائية، والبؤر، التى تؤوى مسلحى الفصائل السورية. الأمر الذى أتاح لأفراد «داعش» حيزا أوسع لحرية الحركة، وسهل انتقالهم عبر الحدود، والتمركز فى شمال وغرب ووسط لبنان. كما وفر خط عبور وتهريب ثنائى الاتجاه، بين لبنان والعراق عبر سوريا، لتلقى التدريبات، واكتساب الخبرات من المشاركة فى القتال، قبل العودة من أجل تنفيذ عمليات داخل لبنان.
يكابد لبنان، منذ بضع سنين، أزمة اقتصادية خانقة، تعد الأسوأ فى تاريخه، فيما صنفها البنك الدولى، من بين الأعنف على مستوى العالم منذ عام 1850. فعلى وقع الجمود المنبعث من الفساد وسوء الإدارة، والمتفاعل مع عوامل خارجية، كمثل جائحة كورونا، والحرب الأوكرانية؛ انكمش سعر صرف الليرة باتجاه 60 ألفا، مقابل الدولار الواحد، لتهوى قيمتها بأكثر من 97%، منذ انهيار النظام المالى فى البلاد عام 2019. رافق ذلك، أزمة سيولة حادة، أفقدت المصارف جهوزيتها لتزويد العملاء بودائعهم الدولارية. كما قفز معدل التضخم إلى مستويات قياسية، تخطت 170 %. وأكدت الأمم المتحدة انزلاق أكثر من 80% من سكان البلاد تحت خط الفقر. وحسب دراسة حديثة لبرنامج الأغذية العالمى، عانى نحو مليونين من سكان لبنان، البالغ عددهم 6.5 مليون نسمة، من انعدام الأمن الغذائى بين سبتمبر وديسمبر 2022. مع توقعات بوصول العدد إلى 2.26 مليون شخص، بحلول مايو المقبل.
على إثر ذلك، أضحى المجتمع اللبنانى منقسما إلى فسطاطين: أولهما، يسمى «طبقة الدولار الطازج»، وهى الشريحة المحدودة، التى يشكل الدولار جل مداخيلها، وبمقدورها تحمل نفقات رغد العيش، حتى فى أحلك الظروف. أما ثانيهما، فيمثل الأغلبية، التى تتقاضى رواتبها بالعملة المحلية المنهارة، ما يجعلها تعانى الأمرين، توسلا لتوفير الحد الأدنى من أساسيات الحياة المتواضعة. تزامنا مع ذلك الوضع المذرى، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، فى وقت سابق من الشهرالحالى، عجز لبنان عن سداد مستحقاته المتراكمة، لحساب ميزانية تشغيل الأمم المتحدة، والتى تقدر بنحو 1835303. وهو ما سيفقده، إلى جانب خمس دول أخرى، حقوقه فى التصويت داخل الجمعية العامة المكونة من 193 عضوا.
وسط زخم آليات وأساليب التجنيد الداعشى، عكست الحالة اللبنانية طغيانا للإغراء المالى على الشحن الأيديولوجى. حيث تهافت شباب كُثُر، ممن ليس لديهم ارتباطات أيديولوجية مسبقة بالتنظيم المتطرف، طلبا لأموال يصيبونها، نظير الانخراط فى صفوفه. إذ استغل «داعش» انشغال الأجهزة الأمنية بتداعيات انفجار مرفأ بيروت، وقمع الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية الغاضبة، بغية اختراق الساحة اللبنانية، لاستقطاب عناصر جديدة. خصوصا فى الأقاليم الشمالية الأشد فقرا، مثل طرابلس وعكار. ففى فبراير الماضى، أجبرت الفاقة، زرافات من أبناء مدينة طرابلس، التى تصارع التهميش وتدهور مستوى الخدمات،على الانضواء تحت لواء التنظيم الإرهابى، الذى أغراهم برواتب شهرية تناهز الألفى دولار.
امتدت أصداء الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وما صاحبها من تخبط سياسى، لتطال المنظومة الأمنية اللبنانية. حيث عجز الجيش عن حفظ الأمن، والذود عن التراب الوطنى، وحماية وحدة البلاد وتأمين حدودها الرخوة، التى شكلت منفذا حيويا للإرهابيين. فلقد أسفر عدم اكتمال التشكيلة السداسية للمجلس العسكرى، عن نقل صلاحياته إلى قائد الجيش، الذى تحتدم الخلافات بينه وبين وزير الدفاع، المدرج ضمن قائمة المرشحين لرئاسة الجمهورية، بينما سيحال إلى التقاعد فى يناير 2024. الأمر الذى يطيل محنة فراغ القيادة، حتى انتخاب الرئيس، أو تأليف حكومة جديدة، تعيد بناء المؤسسات، وتنقذ البلاد والعباد من السقوط فى براثن الفشل والانفلات. أما على صعيد الأجهزة الأمنية، فلم يتم ملء الفراغ، الذى يلبد سماء مجلس قيادة قوى الأمن الداخلى، منذ يونيو الماضى. ما سلبه إمكانية الانعقاد، جراء عدم اكتمال النصاب، فيما آلت صلاحياته إلى مدير قوى الأمن الداخلى. ومن غير المستبعد أن يتكرر سيناريو فراغ القيادة المقيت، الذى أطبق على الجيش وقوى الأمن الداخلى، فى إدارة الأمن العام. إذ سيُحال مديره إلى التقاعد مطلع مارس المقبل، بينما لم يتم تسمية من يخلفه، حتى كتابة هذه السطور.
لما كانت معطيات من قبيل: الإخفاق الاقتصادى، والجمود السياسى، والفراغ المؤسسى، والاحتقان الطائفى، والتشظى المجتمعى، والتدخلات الخارجية، كفيلة بتهيئة البيئة لاستنبات التنظيمات الإرهابية؛ فقد وجد «داعش» فى بؤر شتى من الساحة اللبنانية، ميدانا مثاليا لإعلان فرعه الثامن عشر. وأعانه على ذلك، تعاظم حاجة تنظيمات طائفية محلية متنفذة، لتوظيفه، عبر منحه الضوء الأخضر لنفث سمومه، حتى تنتزع شرعية البقاء، وتحتفظ بسلاحها وحظوتها. فلطالما تطلعت أذرع إيران الولائية، إلى الاستعانة بالورقة الداعشية، فى استنساخ النموذج العراقى على المسرح اللبنانى، لإنجاح مخطط الاستهداف المزدوج للمسيحيين والسنة. وهو الأمر الذى استغله «داعش» فى تحويل لبنان إلى مصدر للتجنيد، وتعويض خسائره المتواصلة فى الأفراد، من خلال استقطاب أتباع ومقاتلين جُدد. ليغدو البلد المأزوم، عمقا استراتيجيا، ومعينا بشريا، لما يعتبره التنظيم الإرهابى، «محور الشام الداعشى الجديد».