نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا بتاريخ 26 أبريل 2022 للكاتب محمد خلفان الصوافى تناول فيه الرؤية الخليجية للمشهد السياسى العالمى وأسباب تفضيله ودعمه لنظام عالمى متعدد الأقطاب.. نعرض منه ما يلى. نظم «مجلس محمد بن زايد»، فى 13 أبريل 2022، المحاضرة الرمضانية الثانية تحت عنوان «الأمن والاستقرار فى عالمنا المتغير.. من منظور دولة الإمارات»، وتحدث فيها الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسى لصاحب السمو رئيس دولة الإمارات. وتناولت المحاضرة موضوعات مختلفة، وإن كان الجانب الجدير بكثير من التأمل والتفكير هو ملاحظات معالى الدكتور قرقاش حول النظام الدولى وتحولاته الجارية، حيث رصد ست ملاحظات مترابطة، وهى تعطى خلاصة أن الهيمنة الغربية على النظام الدولى الحالى تعيش أيامها الأخيرة، وأن ما نشهده هو مخاض لنظام دولى متعدد الأقطاب.
ومن المفيد التوقف عند بعض الملاحظات واستقراء دلالاتها، خصوصا تلك التى تعكس رؤية تحليلية عميقة، ويمكن للمراقب من خلالها استخلاص منظور خليجى واضح لحالة النظام الدولى ومستقبله، فهى تبين الرؤية الخليجية لملامح المشهد السياسى العالمى. كما تجدر الإشارة إلى أن مضمون تلك المحاضرة حمل لغة جديدة فيما يتعلق بعلاقات دولة الإمارات أو دول الخليج ومدركاتها للمكانة الأمريكية فى النظام الدولى، ما يعطى مؤشرا حول الرؤية التى يُفترض أن يكون عليها هذا النظام أو على الأقل تُفضلها دول الخليج.
والرأى الغالب لدى المراقبين أن هناك إعادة تشكيل للنظام الدولى بعد أن كان أحادى القطبية منذ انهيار الاتحاد السوفييتى فى عام 1989، وأنه يتجه حاليا ليكون نظاما متعدد الأقطاب أو على الأقل ثلاثى الأقطاب، يضم بجانب الغرب أو أعضاء حلف «الناتو» كلا من الصين وروسيا.
واللافت فى هذا التحول العالمى المرتقب أن دول الخليج، خاصة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، طرف فى هذا المشهد ولو بجزء بسيط، خصوصا منذ بداية الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا، بتبنيها موقف «الحياد الإيجابى» وعدم الميل إلى طرف ضد الآخر فى هذه الحرب. وهذا يعنى أن لدول الخليج رأيا محددا وواضحا فى شكل النظام الدولى المرغوب، وأنها بالرغم من تعقد الأزمة الحالية لم تكتف بالمتابعة السلبية، وإنما ترجمت رؤيتها إلى مواقف عملية ودور فاعل ومؤثر.
• • •
صحيح أن الولايات المتحدة مازالت حتى الآن هى الدولة العظمى الوحيدة وفق معايير التأثير الحقيقية فى السياسة العالمية، وأنها هى التى تتحكم فى العديد من الخيوط التى تحرك الأحداث العالمية. لكن أيضا هناك دولا كبرى أخرى باتت تنافس فى مجال التأثير وتغيير الوقائع الدولية، مثل روسيا والصين. بل لا يمكن إنكار وزن دول إقليمية فى تقرير مصير العديد من القضايا الحرب والسلم الدوليين؛ نتيجة لما تمتلكه من أدوات التأثير الاقتصادى والدبلوماسى، حيث أصبح من الصعب تجاهل مواقفها ورأيها فى القضايا الدولية.
وبالتالى أبرزت الحرب الروسية – الأوكرانية موقفين مهمين فى الاستراتيجية العالمية؛ الأول هو بروز موقف خليجى مستقل يراعى مصالح دوله بحنكة سياسية وهدوء دبلوماسى، بحيث لا تستفز الدول الكبرى الأخرى بل تقدم دلائل عقلانية ومنطقية لموقفها الذى يعتبر حتى الآن هو الأكثر صوابا. والموقف الثانى هو أن الولايات المتحدة لم تعد هى القوى الوحيدة المؤثرة فى السياسة الدولية، حيث بدأت تظهر ملامح تُشكل نظاما دوليا جديدا متعدد الأقطاب؛ ثلاثيا أو حتى ربما رباعيا بعد أن بدأ الرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون، التحرك منفردا لإقناع روسيا بعدم غزو أوكرانيا، وكأنه يمثل التحرك الأوروبى بعيدا عن الولايات المتحدة.
• • •
ربما تفاجأ العالم بالطرح الذى قدمه الدكتور أنور قرقاش، واعتبره بمنزلة إعلان عن تفضيل دول الخليج لنظام دولى متعدد الأقطاب، خاصة أن دولة الإمارات، بفعل تحركاتها السياسية النشطة والمؤثرة والناجحة، صارت تعطى انطباعا أنها تعبر عن جانب مؤثر من الرأى الخليجى.
وسبب المفاجأة أنها المرة الأولى التى يرتفع فيها الصوت الخليجى ضد الحليف الاستراتيجى التقليدى الذى لم يراعِ فى العديد من مواقفه مصالح حلفائه الخليجيين، والذين من جانبهم استفادوا فى إدارة العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية من دروس سابقة، منها ما كان يُعرف بـ«الربيع العربى» ودعم إدارة باراك أوباما آنذاك لتيارات سياسية ضد دول عربية حليفة للخليج، وتوقيع واشنطن الاتفاق النووى مع إيران فى عام 2015 وما استتبع ذلك من تمدد النفوذ الإيرانى فى المنطقة، ثم الموقف الأمريكى غير المبالى من استهداف ميليشيا الحوثيين للأمن والاستقرار فى السعودية ثم الإمارات.
وتؤشر المواقف الخليجية والعربية لأكثر من عامين إلى أن ثمة حالة تردد وتقاعس أمريكية تسببت فى هزة لمسارات علاقاتها مع الدول العربية، والخليج بشكل خاص، مع دفع هذه الدول إلى محاولة استدراك مواقفها، والبحث عن مصالحها وأدوارها المفترضة والواجبة فى رسم خرائط المنطقة والعالم. وهذا ما تطلب بدوره مراجعة دول الخليج لأولويات علاقاتها بما يحقق مصالحها الاستراتيجية العليا.
• • •
هناك 3 عوامل وراء تفضيل الإمارات، وربما الخليج، لتعدد القطبية بدلا من سيطرة قطب وحيد حتى لو كان حليفا استراتيجيا وتقليديا، وذلك بعد أن أثبتت العلاقات مع الولايات المتحدة أن المعيار الوحيد هو البرجماتية فى أسوأ صورها. وتتمثل هذه العوامل الثلاثة فى الآتى:
أولا، تُفضل الصين وروسيا التعامل مع الدول العربية من دون التدخل فى شئونها الداخلية، على عكس الولايات المتحدة التى اختارت دعم بعض الخارجين على القانون مثل جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك السماح لبعض المنظمات المأجورة بشن حملات إعلامية تشوه صورة النظم العربية الحاكمة.
ثانيا، باتت الصين قوة اقتصادية عالمية، وأحدثت ثورة كبيرة فى المجال التكنولوجى ولديها مشروع «طريق الحرير» الذى سيربط الشرق بالغرب، وبالتالى هى لا تبحث عن مصالحها فقط وإنما تدمج الدول الأخرى فى مشروعاتها الدولية. كما أن روسيا تشترك مع دول الخليج فى قضايا الطاقة (أوبك+)، وتسعى لسد وتغطية الفراغ الأمنى الذى تركه التراجع الأمريكى فى المنطقة.
ثالثا، لم يخدم انفراد الولايات المتحدة بالنظام الدولى استقرار العالم، كما كان يُعتقد، وإنما أتاح لها فرض إرادتها على باقى دول العالم، خاصة الدول العربية التى تمكن بعضها من استدراك هذا الخلل، ورتب أوضاعه بطريقة أعطته مرونة فى التعامل مع التجاهل الأمريكى لاستقرار المنطقة، وحرر قراراته السياسية من السيطرة الغربية، وجعله يختلف فى ملفات ويتفق فى أخرى.
وفى التفكير الاستراتيجى الخليجى الراهن، يقوم النظام الدولى على ثلاثة أعمدة رئيسية، هى الولايات المتحدة وروسيا والصين، مع وجود حلفاء إقليميين يرجحون كفة كل من الأقطاب الثلاثة. وربما صارت دول الخليج وغيرها من الدول العربية حريصة على أن توجد هذه القوى بالقدر نفسه من دون تفرد واحدة. ووفقا لهذا الإدراك، فإن دول الخليج باتت أكبر من مجرد حليف يتأثر بما تفعله الدول الكبرى، حيث أصبحت لديها قدرة على التأثير العكسى إذا رأت أنها مُعرضة للإضرار بمصالحها المباشرة أو غير المباشرة، فالغرب ليس قدرها أو خيارها الوحيد، وإنما هو شريك فى الملفات التى تخدم المصالح المشتركة.
إضافة إلى ذلك، فإن تفكير الولايات المتحدة فى الخروج من منطقة الشرق الأوسط دون التشاور مع حلفائها أو الاستماع إليهم، لم يقلل من أهمية المنطقة بالنسبة للدول الكبرى الأخرى التى وجدتها فرصة لملء الفراغ الأمريكى. وتجدر الإشارة هنا إلى أن للقوى الأخرى مصالح وحسابات خاصة بها. لكن ثمة فارقا مهما يتمثل فى أن تلك القوى الكبرى (وتحديدا الصين وروسيا) لا تتعامل مع دول الشرق الأوسط ولا غيرها من دول العالم من منظور واحد فقط، كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما قد تراعى بكين وموسكو مصالح وحسابات الدول الأخرى وهى تسعى إلى مصالحها الذاتية.
فى مقابل ذلك، خسرت الولايات المتحدة كثيرا فى علاقاتها الدولية، وكذلك فى مكانتها وصورتها لدى الرأى العام العالمى، خاصة بعد الانسحاب المفاجئ من أفغانستان فى العام الماضى، ثم عدم منعها اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية.
• • •
بات المشهد الدولى الحالى أقرب إلى محفل عالمى لمناقشة التغيرات الجارية فى النظام الدولى والاحتمالات المتوقعة بشأنه. وتكاد تتفق آراء الخبراء والمحللين على أن الحرب الراهنة فى أوكرانيا ليست مثل الأزمات التى أصابت النظام الدولى من قبل، حيث الاحتمالات ضئيلة لبقاء الوضع على ما هو عليه. ومن بين كثير ما حملته معها هذه الحرب، أن الدول العربية والخليجية ليست هامشية التأثير فى المشهد، فهى فى قلب التغيير الدولى وشريكة فى الحراك بعد أن أكدت مكانتها فى العالم وصارت لديها استراتيجية أساسها الدفاع عن أمنها ومصالحها الوطنية. وبالتالى من الطبيعى بل والضرورى أن يكون لهذه الدول رؤية ودور فى تفضيل نظام دولى على آخر، بل والدفع نحو هذا التغيير الأكثر استجابة لمتطلبات أمنها وتحقيقا لمصالحها.
النص الأصلى