عودة إلى الميدان
أهداف سويف
آخر تحديث:
الخميس 30 يونيو 2011 - 8:35 ص
بتوقيت القاهرة
التحرير مساء الثلاثاء؛ فلاش باك إلى يناير ٢٠١١ الشباب المنتشر على المداخل ليحذر اللى مش واخد باله: «بلاش من هنا. عايزة تخشى، خشى من هناك». الطوابير والطوابير، الأمن بالخوذات والدروع فى شارع محمد محمود متجهة من الداخلية نحو التحرير، أصوات الفرقعة، الطوب والمياه فى الأرض فى شارع التحرير وفى طلعت حرب، أصحاب المحال المتجمعون فى تكتلات صغيرة شاخصة نحو الميدان: هناك، حيث تتصاعد سحب الدخان، وتُسمع الطلقات.
وحين تصل إلى الميدان، وتدخله فعلا، يأتيك ذلك الإحساس القديم بأنك «رَوَّحْت»؛ بأنك تنضم إلى كلٍ أنت جزء منه.
الشباب مشتبك مع الأمن عند مدخل شارع محمد محمود.
الميدان يمتلئ بالناس. كل قادم جديد يأتى بزجاجات من الخل وأكياس من البصل وقنائن مياه ومناديل ورقية. الغاز ودموعنا والشباب المشتبك. وكل برهة تنسلخ فرقة صغيرة تحمل ولدا أو بنتا وتجرى من الاشتباك إلى الصينية، تسلمه جريحا أو مغشيا عليه إلى أهل الصينية يتلقفونه بالرعاية. منا وإلينا.
إيه الحكاية؟ الحكاية يُجمع عليها الميدان كالآتى: أهالى الشهداء فى ماسبيرو، راح لهم ناس، قالولهم فيه تكريم لكم فى مسرح البالون. أخذوهم وراحوا مسرح البالون، هناك وجدوا ان فيه تكريم فعلا، ولكن لأهالى شهداء الشرطة، وطلع عليهم البلطجية بالسِنَج والسيوف والأسلحة التى أصبحت معتادة، وضربوهم (ويقال إن هناك شابا قتل، والله أعلم)، وانتهى أهل شهداء ماسبيرو فى قسم العجوزة حيث ُضربوا مرة أخرى، وقيل إن سيدة، أم شهيد، أشارت إلى ضابط معين وقالت للناس إنه ضربها بالقلم. انتقل الناس إلى الداخلية للشكوى، وكانوا غاضبين، وفى لاظوغلى كانت مشادات وأطلقت الداخلية الغاز المسيل للدموع فاندلعت شرارة ما قد تكون المرحلة الثانية من ثورة مصر.
أى شخص كان فى التحرير يوم الاثنين بعد الظهر وحضر جنازة الشهيد محمود خالد قطب لن يستغرب ما حدث مساء الثلاثاء. محمود وأهله صارعوا الموت أربعة أشهر بين مستشفيات القاهرة. محمود يعرفه الجميع: الشاب الذى نراه كل يوم منذ ٢٨ يناير على شاشات التليفزيون والكمبيوتر والموبايل تستهدفه سيارة السلطة، فيسقط، ويجرى إليه رجل آخر ليساعده وينقطع الفيديو. غلبه الموت وغلب أهله. استُشهد. مات يوم الاثنين ٢٧ يونيو وانتشر الخبر وتوجه الناس إلى جامع عمر مكرم ليصلوا عليه بعد صلاة العصر، وتأخر الجثمان ــ أخرته المستشفى؟ أخرته النيابة؟ المهم أخرته «الجهات المعنية»، ووقف الشعب ينتظره عند عمر مكرم وعند قصر العينى الفرنساوى. وطبعا الناس قالوا بيساوموا أهله يتنازلوا. ولما أطلقوا سراحه سار فى جنازة مهيبة هاتفة فى شارع قصر العينى إلى أن وصل إلى التحرير. صلينا عليه وقت المغرب ــ ثم رحل.
الكثير غلبهم البكاء. عليه وعلى شبابه وعلى العمر الذى لن يعيشوهما، على أهله ولوعتهم وعلى الحزن والحسرة اللذين كتب عليهم أن يعيشوها، وعلى كل الناس اللى استشهدوا وكل الناس اللى انصابوا. وشعرنا بالقهر لأن هناك مِن أهالى الشهداء مَن يجلس فى الشارع فى ماسبيرو ولا يجد من يجيبه إلى طلباته الأساسية، بل يُدخِلنا البعض فى جدل سخيف حول من الشهيد ومن البلطجى (وهو ما كتب فيه غيرى فى هذه الجريدة كتابة ملهمة).
وممتزجا مع الحزن والقهر، ونابعا منهما، كان الغضب. رأيت الشباب فى التحرير ــ شباب الشعب ــ الشباب الذى إذا استُشهد سيصفونه بـ«البلطجى» ــ أو فى الحقيقة يصفونه هكذا ويشككون فيه من الآن: فقبل أن أترك الميدان فى الفجر كان بيان المجلس العسكرى رقم ٦٥ يصف ما حدث فى الميدان بأنه «خطة مدروسة ومنظمة» تهدف إلى «زعزعة أمن واستقرار مصر» ويتم فيها «استغلال دم شهداء الثورة بغرض إحداث الوقيعة بين الثوار والمؤسسة الأمنية» ــ رأيت الشباب، ورأيت حرصه على سُمْعَته، وعلى ألا يُتَّهم بالبلطجة: وقف يحمى آلات صرف النقود والمحال التى كسر واجهاتها الضرب. ورأيت غضبه لأننا نعيش وكأن شيئا لم يكن.
أجواء ٢٥ يناير تأتينا مرة أخرى. الكل يراها ضرورية. والكبار يشفقون على الشباب من عواقبها. لكننا لا نرى خيارات.
كأن شيئا لم يكن: «الرئاسة» تصدر بيانات تتهم فيها القوى الثورية بالعمالة، الأمن المركزى فى الشارع يفَجر قنابل الغاز ومن ورائه البلطجية يصَوبون الحجارة بحنكة، القوى السياسية تتحاور مع نفسها ولنفسها وتتقرب من السلطة وتعمل على كسب نقاط وتسجيل مواقف وتبحث عن الخلاف وتبث الفرقة، والإعلام فى معظمه يكذب ويسَوِّف ويستشف ما تريده السلطات فيذيعه. ووسط كل هذا، وفوقه وتحته وحوله: الشعب. الشعب الذى تأتى أفعاله، كما اعتدناها، صادقة، وأمينة، و... دوغرى.
وفى الشعب، وفيمن انحازوا له، يكمن التغيير، ويكمن الأمل. فالشعب عرف طريقه، ولن يعود عنه. والشهور، منذ ٢٥ يناير وإلى الآن، أوضحت وفرزت القوى الوطنية. فهناك من ظل يدور فى الأفلاك والممارسات القديمة. وهناك، وبالذات من الشباب، من يُبدع فى اتجاهات ومبادرات وتشابكات جديدة. وهناك كل الثورات الصغيرة والكبيرة على الأرض وفى المواقع: فى الجامعات والمستشفيات والمصانع ــ هناك روح قد تغيرت. الشعب واعٍ، الشعب متحضر، الشعب جميل، الشعب يسبق النُخَب، لكنه يعطيها فرصة ــ ربما تكون الأخيرة ــ للحاق به. الشعب يطلق رسائل، بعضها فى شكل هتاف: «إحنا عُزْناها سلمية/ قالوا علينا بلطجية»، وبعضها فى شكل نكت: «إحنا عملنا الثورة عشان نغير التوقيت الصيفى». فلتستمع له السلطات والنخب.
الشعب خلق لنفسه ولبلاده الأمل، ولم يتراجع فى يناير وفبراير. والآن، وقد فقد فى سبيل هذا الأمل الكثير، بالقطع لن يتراجع. قالوا فى الميدان يوم الاثنين ربما يكون محمود خالد قطب هو خالد سعيد الثانى. فانظروا كيف يستمر شهداء مصر فى العطاء!