العمارة أم الفنون.. ومن دون عمارة تخصنا لا روح فى حضارتنا
صحافة عربية
آخر تحديث:
الجمعة 30 أغسطس 2019 - 11:00 م
بتوقيت القاهرة
نشرت صحيفة الاتحاد الإماراتية مقالا للكاتب «محمد عارف» وجاء فيه:
جائزة «تميُّز للإنجاز المعمارى مدى الحياة» تخطّت أخيرا حدودها القطرية. فالجائزة التى مُنحت منذ تأسيسها عام 2014 لأساطين العمارة العراقية، محمد مكية، ورفعت الجادرجى، وقحطان المدفعى، وهشام منير، ومعاذ الألوسى.. أعلن فى الأسبوع الماضى عن منحها للمعمارى الفلسطينى الأردنى راسم بدران، وبه تتميز «تَميّز»، فهو يتجاوز الانتماء القطرى إلى العربى الإسلامى العالمى، وتمتد مكاتبه المعمارية من «دار العمران» الذى أسسه عام 1980 فى عَمان، إلى الرياض، وبيروت، وأبوظبى. وأهم المشاريع التى فاز بها تصميم «جامع الدولة» فى بغداد (1982)، والجامع الكبير وقصر العدل فى الرياض (1985)، والجامعة الإسلامية الدولية فى كوالالمبور بماليزيا (1993)، ومركز الملك عبدالعزيز التاريخى فى الرياض (1994)، ومدينة الفحيحيل فى الكويت (2003)، ومجمع محاكم أبوظبى (2006)، وتطوير حى البجيرى فى الدرعية بالسعودية (2006 ــ 2015).
وراسم بدران لا يبنى للحصول على زبائن، بل يحصل على الزبائن ليبنى، بدا ذلك واضحا منذ «جامع الدولة» فى بغداد، الذى لم يُشيّد، بسبب ظروف الحرب العراقية الإيرانية، لكن بدران حقق فيه رؤياه بإشادة أكبر مسجد جامع آنذاك فى العالم. والمسجد الجامع هو الروح التى تشكل البعد الرابع للبناء، حسب «جيمس ستيل»، أستاذ العمارة فى جامعة «ساوث كاليفورنيا» بالولايات المتحدة، ومؤلف كتاب «راسم بدران.. حكايات الناس والمكان». والكتاب الصادر عن دار نشر الكتب الفنية العالمية «تيمس آند هدسن» تحفة فى التصميم يفترشها 350 رسما وتخطيطا من أعمال بدران، الذى لا يتوقف عن تنفس الفن كالهواء، وفيه ندرك أن المسجد الجامع أهم مبنى فى المدينة الإسلامية، وهو يمثل القيم المشتركة بغض النظر عن الثقافات المختلفة للمجتمعات الإسلامية، «إنه مغناطيس الهوية فى عالم متنوع. وهو تاريخيا لم يكن قطّ صرحا منعزلا، بل منسوج تماما فى البنية الحضرية، وفى مواقع متواترة عبر المدينة. وعلى الرغم من تشابه الوظيفة فنادرا ما نجد جامعا بواجهة كبيرة، كما فى الكاتدرائيات المسيحية، بل يتميز الجامع بالحرم الداخلى الكبير».
ويُعتبرُ فوزُ بدران بمسابقة «جامع الدولة» فى بغداد منجزا معماريا له وللعراق، حيث خالف فى تصميمه قواعد النصب الرسمية كرمز لسلطة رئاسة الجمهورية، فيما جعله بدران أكثر إنسانية، وقربا من الفرد العراقى العادى. يبدو هذا بوضوح فى تصميم شكل محيط المسجد، الذى يُذّكرُ بالقرية العراقية التقليدية.
وبدران مثل إدوارد سعيد، خارج المكان داخل المكان، منذ غادرتْ عائلته القدس التى ولد فيها عام 1947، وهو لا يتعامل «مع المكان، كواقع ساكن لا يتغير، بل متحرك دائما إلى الأمام»، حسب بدران الذى يصف كيف شَحَذ الترحال الدائم قابلياته وقدرته على حفظ الصور فى ذهنه، بجميع تفاصيلها، وبأحداثها وتجاربها. وهو «قادر على استعادتها لاحقا ومراجعتها نقديا عند وضعها على الورق، بدلا من استنساخها ورسمها كصور ساكنة». هذا التصور النقدى للمكان بتعقيدات وتفاصيل محتواه يمنح بدران رؤية منفصلة عن المشهد، ويهبه تصورا ومخيالا جديدين مختلفين تماما عن آخرين حاولوا العثور على طريقة لترجمة التقاليد فى شكل معاصر.
وتدرك ذلك بشكل حىّ عندما تتجول مع بدران فى شوارع مدينته عَمّان المنحوتة العملاقة من تلال وهضاب مسكونة، تسحرك محاسنها التى تسترها وتكشفها، إذ تعتلى مرتفعاتها، وتنحدر مع منحنياتها، إلا أن عاشقها بدران لا يغتفر قط انتهاكات جمالها. والمساكن التى صمّمها وبناها فى عمّان منذ السبعينيات من أعمال الحب المستحيل، الذى يريد أن يعوض الحبيبة عمّا فعلوه بها. وعندما ترى عَمّان بعيون بدران تدرك قول «فرانك لويد رايت»، أحد أبرز المعماريين فى القرن العشرين، إن «العمارة أم الفنون، ومن دون عمارة تخصنا لا روح فى حضارتنا».
الاتحاد ــ الإمارات