1 فى المائة من أجل 1.5 درجة مئوية!
محمود محي الدين
آخر تحديث:
الأربعاء 30 نوفمبر 2022 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
فى الجلسة الافتتاحية رفيعة المستوى للعمل المناخى طرحت سؤالا: «ما الأمر الذى يمكن وصفه بأنه غير كاف وغير كفء وغير عادل؟»؛ وأجبت بأنه النظام الراهن للتمويل الدولى للمناخ والتنمية. أما عن عدم كفاية التمويل فهكذا تخبرنا الأدلة بأن ما هو متاح لتمويل التنمية المستدامة من المصادر الموعودة من الدول المتقدمة بما يعادل 0.7 فى المائة من إجمالى الدخل القومى للدول المتقدمة لم يصل بكامله أبدا إلى البلدان النامية رغم بلوغه 179 مليار دولار فى عام 2021 وهو أعلى رقم تصل إليه المساعدات الإنمائية الرسمية، ولكنه لم يتجاوز نصف ما تم التعهد به، وبافتراض التزام التعهد بكامله، فإنه لن يجسِّر أكثر من 15 فى المائة من متوسط فجوة تمويل التنمية، قبل أزمة جائحة كورونا البالغة 2.5 تريليون دولار.
أما عن فجوة تمويل العمل المناخى بالتركيز على احتياجات التحول إلى طاقة نظيفة، فتقدر بتريليون دولار سنويا حتى عام 2030، وفقا لتقرير تمويل العمل المناخى والتنمية الذى تم تدشينه فى أثناء قمة المناخ من فريق عمل تم تكليفه من رئاستَى قمتَى جلاسكو وشرم الشيخ. والمبالغ الموعودة منذ مؤتمر كوبنهاجن كانت بحد أدنى 100 مليار دولار، وهو رقم متواضع قياسا بحجم التمويل المطلوب، ومع ذلك لم تفِ الدول الثلاث والعشرون المتعهدة بالتمويل بتعهداتها إلا سبعا منها. ولا يوجد اتفاق على معيار احتساب تدفقاتها لذا تجد الرسمى الذى يدور حول 80 فى المائة وفاء بالتعهدات مقابَلا بتحدٍّ من جهات لها اعتبارها مثل منظمة «أوكسفام» التى تقدِّر أن هذه التدفقات تقترب من 20 فى المائة فقط.
وفى أى حال، فشأن تمويل العمل المناخى ليس أفضل حالا من تمويل التنمية فكلاهما لا يجسِّر فجوة تمويل مشروعاته ولا يفى بمستلزمات التنمية أو حماية المناخ، وبذلك تستمر مشكلات الفقر المدقع والتعليم والصحة والبنية الأساسية، وتتفاقم أزمات التفاوت بين الدول وداخلها وتدهور المناخ والطبيعة دون حل يحقق أهداف 2030 للتنمية المستدامة التى تتضمن العمل المناخى فى طياتها وهو الهدف الثالث عشر منها.
ولقد اجتهدتْ الدول النامية ومنظمات من المجتمع المدنى ومراكز أبحاث فى حث البلدان المتقدمة على الوفاء بالتزاماتها، من دون جدوى، إلا قليلا. ومن المحاولات المبذولة من أجل تتبع الالتزامات، فصل تمويل التنمية عن تمويل العمل المناخى بدعوى ضمان الإضافة وليس ازدواج الحساب أو تعدده. ولكن فى تقديرى أن هذا الأمر قد أدى إلى فصل غير مبرر بين مسارات التنمية والعمل المناخى، وأدى كذلك إلى انعزال غير محمود بين جزر مصطنعة بعضها للعمل المناخى وبعضها الآخر للتنمية، وهو ما أدى إلى انشطار مفتعل وخادع بين العمل التنموى والمناخى. وقد كرس ذلك الانشطارَ نهجٌ بائسٌ اختزل العمل المناخى فى تخفيض انبعاثات الكربون رغم أهميته، فضيَّع أهمية التعامل مع انبعاثات ضارة أخرى كغاز الميثان، وقلل من أهمية العمل المناخى فى مجالات التكيف، وغضَّ الطرف عن ملف الخسائر والأضرار برمّته، وهو الذى نجحت قمة شرم الشيخ أخيرا فى وضعه على قائمة العمل الدولى، وتمويله من خلال صندوق جارٍ تأسيسه بما يعد انتصارا تاريخيا محققا. كما أكدت أعمال هذه القمة أهمية التحرك فى إطار التنمية المستدامة الذى يجب أن يأتى العمل المناخى كأحد مكوناته، فالعمل المناخى فى مجالات الطاقة الجديدة والمتجددة وتدعيم البنية الأساسية ونظم المياه والزراعة وحماية الشواطئ والتصدى للتصحر.. هى كلها مجالات للاستثمار من أجل التنمية المستدامة التى يجب ألا تغفل الاستثمار فى البشر فى المقام الأول. وبالتالى فإن التمويل للتنمية والعمل المناخى يجب أن يتحقق فى إطار متكامل وشامل فى نطاق الدولة وأولوياتها.
فإذا كانت هذه أسبابا كافية تبرر وصف التمويل الدولى بعدم الكفاية، فإن سبب وصفى إياه بعدم الكفاءة أيضا هو ما تستغرقه عملية التمويل من فترات طوال منذ بدء الاتفاق بين الحكومات المعنية بالتمويل إلى اليوم الذى يصل فيه التمويل فعلا على المشروعات والمجالات التى تترقب وصوله بعد طول انتظار يصل إلى عدة سنوات. وهناك حالات لبلدان نامية خصوصا من الجزر الصغيرة طالت فيها فترات الانتظار إلى أربع سنوات منذ بداية طلب التمويل، وبعض طلبات التمويل كانت لاحتياجات عاجلة خصوصا فى مجالات تدعيم البنية الأساسية والتكيف مع آثار المناخ الخطرة على الحياة وأسباب المعيشة معا.
ويرجع هذا بالأساس إلى قصور إدارى وبيروقراطية نظم التمويل تتحملها مؤسسات التمويل بالأساس، وإن تعللت بضعف القدرة المؤسسية للبلدان المقترضة، فجانب من عمل هذه المؤسسات وسبب وجودها أصلا هو تدعيم قدرات البلدان النامية.
ويبقى الوصف الثالث والأخير لنظام التمويل الدولى بعدم العدالة، ومرجع هذا الوصف هى تكلفة التمويل الباهظة التى يجب أن تتحملها البلدان النامية خصوصا متوسطة الدخل منها فى سبيل الحصول على التمويل المطلوب للعمل المناخى. وهنا أفرِّق بين تمويل إجراءات التخفيف من خلال مشروعات الطاقة الجديدة والمتجددة التى يمكن قيام القطاع الخاص بها خصوصا من خلال الاستثمارات فى الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين الأخضر، وما هو مطلوب من مؤسسات التنمية الدولية هو المشاركة لمساندة القطاع الخاص وتخفيف مخاطر المشروعات والتأمين ضد المخاطر السياسية المتعلقة بالذات بحقوق الملكية. وهى كلها مشروعات ضرورية للحفاظ على درجة حرارة الأرض بما لا يتجاوز درجة مئوية فوق متوسطاتها قبل الثورة الصناعية الأولى. أما مجالات التكيف فتجد الاستثمارات الخاصة فيها محدودة لا تتجاوز 3 فى المائة، إذ يقوم التمويل العام من موازنات الدول أو بالاقتراض من خلالها وتحميلها بأعبائها بمهمة تمويل حماية البنية الأساسية ومرافقها ونظم الرى والزراعة والتعامل مع مخاطر التصحر ونحر الشواطئ، وهى جميعا مهدَّدة بسبب تدهورٍ فى المناخ سبّبته الدول الصناعية، وليس من باب العدل أن تستدين الدول النامية خصوصا الأفقر منها لتصلح ما أفسدته الدول الأغنى.
أعلم أنه من المستحيل تطوير البناء المالى العالمى على النحو المنشود مع التشوه القائم فى النظام الاقتصادى الذى يستند إليه ويموله، كما أن النظام الاقتصادى العالمى هو ظل النظام السياسى العالمى الأعوج، الجارية شئونه بترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، بما رسمته البلدان المنتصرة فى حرب لم يكن للبلدان النامية فيها ناقة أو جمل إلا بما تحملته وكان أغلبها مستعمرا ومستغَلا من أطراف هذه الحرب. وحتى يعاد تشكيل النظام العالمى الجديد ليعكس تغيير موازين القوى منذ الحرب العامية الثانية وتصاعد الدور الاقتصادى للبلدان ذات الأسواق الناشئة عالية النمو، وحتى يكتمل البناء على عُمُده الجديدة يمكن فقط اقتراح ترتيبات جديدة للتمويل تتسق مع مقترحات لإصلاح البناء المالى العالمى.
وبهذا أسوق مجددا مقترح تمويل العمل المناخى فى إطار التنمية المستدامة ليكون على أساس فترة سماح لا تقل عن عشر سنوات وفترة سداد بعدها تمتد لعشرين عاما، وبتكلفة لهذا التمويل، الذى يمكن أن يصنَّف كقرض حسن، لا تزيد على 1 فى المائة تشمل الإسهام فى العون الفنى. على أن يقدم هذا التمويل من خلال المؤسسات المالية وصناديق التمويل المتخصصة القائمة ومن خلال التعهدات المالية التى التزمت البلدان النامية بالوفاء بها فى السابق يمكن تخفيض تكلفة التمويل، على أن يزاد رأسمال هذه المؤسسات التنموية الدولية بما يسهم فى توفير تمويل إضافى للعمل المناخى يعادل التريليون دولار المطلوبة لتجسير فجوة التمويل كما تَقدم؛ وهذا المبلغ بالمناسبة يعادل 1 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى العالمى.
والسؤال البدهى: وما الذى سيدفع البلدان الغنية للإسهام فى التمويل بعد عهود التقاعس؟ الدافع هو إدراك المصلحة القومية لهذه البلدان، فحتى إذا هى أغفلت فوائد التضامن الدولى، فإن خطر تدهور المناخ لا يفرّق بين غنى وفقير من البلدان، كما أن تهديده للأمن الدولى غير خافٍ عن العيان بما فى ذلك تداعيات النزوح الجماعى وتزايد ظاهرة اللجوء المناخى.