بناء الأيديولوجية الصهيونية العربية
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 30 ديسمبر 2020 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
يحكى أن عضد الدولة البويهى طلب من كاتب اسمه هلال الصابئ أن يكتب كتابا عن تاريخ حكام تلك الدولة. فلما سأله الناس عن هذا الأمر أجاب «إنما هى أباطيل ننمقها وأكاذيب نلفقها». هكذا يفعل الانتهازيون والنفعيون والمنافقون عبر كل العصور. وهكذا يفعل بعض العرب المحسوبين على الثقافة والإعلام بشأن الموضوع الفلسطينى ومستجداته الأخيرة.
طلب منهم ألا يقفوا ضد التطبيع مع الكيان الصهيونى فأظهروا استعدادا وكرما وحماسا لفعل أكثر من ذلك: إبداع منظومة متكاملة لما يمكن تسميته بالأيديولوجية الصهيونية العروبية، مبنية على أباطيل هلالية منمقة وأكاذيب صابئية ملفقة. إنه التاريخ إذ يعيد نفسه.
وكان الأمر سهلا. فإذا كانت الصهيونية اليهودية الكلاسيكية والصهيونية الأمريكية المسيحية الأصولية قد بنيت على ادعاءات أسطورية وخرافات دينية وأكاذيب تاريخية تعطى باسم الله، العلى العادل المنزه عن الظلم والتمييز فيما بين خلقه من البشر، قطعة مسماة من الأرض لشعب مختار مفضل من دون كل البشر، فإنه من الطبيعى أن يفعل أولئك الكتبة والإعلاميين العرب الأمر نفسه.
وهكذا رأينا الصهيونية العربية الجديدة تُبنى على أكاذيب وتلفيقات خيالية باسم دين الإسلام ودين المسيحية ومن خلال تفسيرات متناقضة لبعض الآيات القرآنية، وباسم تزوير متعمد لحوادث تاريخية عاشتها الجزيرة العربية إبان حياة رسول الإسلام، وبالطبع تصاحب كل ذلك أغانى وأهازيج ورقصات تؤديها مجموعات مجيشة. ويدعى أصحاب مدرسة الصهيونية العربية تلك بأنهم إنما يمارسون البراجماتية الوسطية المحايدة العقلانية، فيما بين الصهيونى المعتدى وبين الضحية الفلسطينية، وذلك دون إعلامنا بالضوابط الوطنية والقومية والأخلاقية والإنسانية التى تحكم وتوازن تلك البراجماتية، إذ بدون تلك الضوابط انتهى أصحاب تلك المدرسة إلى ممارسة الماكيافيلية بأبشع وأحط صورها اللامنضبطة. وبالطبع فهم يدعون بأن غايتهم نبيلة، تتمثل فى مساعدة الشعب الفلسطينى، حتى ولو كانت الواسطة لتلك الغاية قبول مجموعة حقارات بربرية من مثل استيلاء الكيان الصهيونى على تسعين فى المائة من فلسطين، وتشريده لستة ملايين فلسطينى فى المنافى مع رفضه لعودتهم، وسجنه لآلاف الفلسطينيين فقط لأنهم يقاومون استعماره الاستئصالى، وهدمه للبيوت واقتلاع الأشجار، وتجويعه لساكنى غزة، وسرقته للمياه، واعتبار الفلسطينى فى الجزء المحتل مواطنا من الدرجة الثالثة، وتصريح قادته بأن أرض إسرائيل الموعودة هى ما بين نهر النيل ونهر الفرات، وممارسته لمماطلات ووعود كاذبة عبر ربع قرن من محادثات أوسلو المشئومة.
لقد كُتب الكثير عن مسيرة التراجع المذهلة لطبيعة المثقف العربى: من مثقف تنويرى نقدى إصلاحى تحررى، إلى مثقف سلطوى غير ديموقراطى يحتقر الأيديولوجيا الملتزمة النضالية، وينبهر بحداثة الغير، ويتأرجح فى مواقفه بين الموضات الفكرية، وصولا إلى حالة البعض الراهنة المتصفة بالفردانية الأنانية والتنكر للهوية العروبية واحتقار الالتزامات الوطنية والقومية ونشر أكاذيب التبرير لكل مغامرة سياسية أو أمنية تمزق هذه الأمة وتدخلها فى أتون صراعات مجنونة وتجعلها خاضعة لابتزاز كل استعمارى محتقر لها ولثقافتها. وهذا ما يفعله الآن البعض بحق موضوع قومى إنسانى أخلاقى فى فلسطين المحتلة.
منذ ربع قرن كتب المفكر العروبى قسطنطين زريق أن الواجبات التى تلقى على عاتق المثقف التزاماتها تقع فى ميدانى المقاومة والقيادة.. المشاركة فى مقاومة المستعمر والمحتل المغتصب والمسيطر الظالم فى المجتمع العربى». وهذا حسب رأيه يتطلب مقاومة الأوهام وإيثار الذات والخداع والضلال والاستعلاء والغربة عن المجتمع. ويردف الدكتور زريق بأن تلك المقاومات الخارجية والداخلية هى التى ستؤهُل المثقف العربى للارتفاع إلى مستوى القيادة وذلك من خلال ارتفاعه إلى أن يكون قدوة وأنموذجا.
ما يفعله أولئك البعض من المثقفين والإعلاميين والطامحين للشهرة هو تخليهم عن مقاومة الاستعمار الخارجى والظلم الداخلى ونكوصهم عن كل مقاومة ضميرية أخلاقية إنسانية. هذا يطرح سؤالا: هل من قاع للتراجع الفكرى والالتزام الأخلاقى فى عالم الثقافة العربية؟
مفكر عربى من البحرين