محمد والمسيح.. المولد والرسالة
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 30 ديسمبر 2022 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
ولد عيسى عليه السلام بمعجزة إلهية عظيمة حيث حملت به الصديقة العظيمة مريم العذراء دون أب، فكذب أكثر بنى إسرائيل المعجزة وصدوا عن رسالته وحاربوه واضطهدوه وحاولوا الفتك به، ولكن أمة محمد التى لم تشهد الحدث عيانا صدقت المعجزة وآمنت بنبوته وبأن مريم العذراء صديقة عظيمة.
أما محمد عليه الصلاة والسلام فقد كانت ولادته أهم حدث فى أمة العرب قاطبة؛ فهو الذى حولها من أمة خاملة ضائعة مستعبدة إلى أمة ذات شأن ورسالة، تسود بقرآنها ورسالتها العالم كله. فمحمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام شقيقان جمعتهما النبوة والرسالة، كلاهما يحب الآخر ويصدقه وهما أقرب الرسل إلى بعضهما البعض، مما حدا بالرسول محمد أن يهتف للدنيا كلها قائلا فهذا هتاف رسول الله للدنيا كلها: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم فى الأولى ــ أى الدنيا ــ والآخرة، قالوا: كيف يا رسول الله؟، قال: الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وليس بيننا نبى».
والإخوة لعلات هم الأشقاء من أب واحد وأمهات شتى وهذا يعنى توحدهم فى أصل الرسالة وهى توحيد الله وعبادته وطاعته، وهداية الخلق إلى الحق سبحانه والدعوة إلى مكارم الأخلاق. أما معنى «أمهاتهم شتى» فمعناه «اختلاف شرائعهم التى تناسب أقوامهم وزمانهم والأهواء والأدواء التى انتشرت فى عصورهم، فشعيب عليه السلام حارب الفساد الاقتصادى والغش فى المكيال والميزان، ولوط عليه السلام حارب الشذوذ الجنسى، وهود عليه السلام حارب طغيان عاد وجبروتهم وتسلطهم وبغيهم. وعيسى ومحمد عليهما السلام بينهما من المودة والمحبة والتواصل أكثر من أى نبى آخر، لأنهما متعاقبان، فالأشقاء الأقرب سنا تكون بينهم من المودة والمحبة أكثر من الشقيقين المتباعدين سنا وعمرا. ولذلك كان تعبير الرسول «وليس بيننا نبى» يجعله كأنما تسلم راية النبوة والرسالة والهداية من شقيقه عيسى الذى أرسل إلى بنى إسرائيل، لتنتقل الرسالة من بعده إلى أمة العرب، ولتنتقل من فلسطين إلى مكة والمدينة. إنها إخوة الرسالة والسير فى ركب الهداية المتواصل، فمحمد هو أولى الناس بعيسى ليس فى الدنيا فحسب، ولكن فى الآخرة أيضا فكلمة «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم» تحمل فى طياتها الكثير من معانى الوصال والقرب والحب والنصرة والحرص، وعلى كل من أطاع الرسول أن يكون له حظ وافر من هذا الحديث وأن يهتف قلبه ولسانه: «نحن أولى الناس بعيسى بن مريم، وكل الأنبياء أيضا».
لقد تكرر ذكر قصة محمد وعيسى عليهما السلام وتبشير كل واحد منهما بالآخر، ومدح كل واحد منهما للآخر، وقد أعطى القرآن العظيم للمسلمين وللدنيا كلها صورة ناصعة راقية جذابة ليس عن المسيح فحسب، ولكن عن أسرته كلها وعن جده «آل عمران» بل أفرد سورة باسم أمه « سورة مريم» وأفرد ثانى أكبر سورة فى القرآن عن عائلته وهم «آل عمران».
وعندما يقص رسول الله على أمته خبر رحلة المعراج يذكر لقاءه بالأنبياء ومن بينهم عيسى عند البيت المعمور يقول: «بينما أنا أطوف بالبيت رأيت رجلا يهادى بين اثنين «أى يمشى بينهما» فقلت: من هذا؟، قالوا: أخوك ابن مريم، وكانت رأسه تقطر ماء وكأنه خرج من ديماس «أى من حمام»، فانظر إلى رد جبريل قائلا: هذا أخوك ابن مريم.
فقلوب الأنبياء لا تعرف الأحقاد ولا الإقصاء ولا الحسد والكراهية، وهى تختلف عن قلوبنا أو قلوب معظم السياسيين أو قلوب عباد الجاه والمال والمناصب العمياء.
فهذا عيسى يبشر بشقيقه أحمد أو محمد الذى سيخلفه فى الرسالة «وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ »، كما جاء فى القرآن أو كما جاء فى الإنجيل فى الإصحاح العشرين من إنجيل «متى» عن قول المسيح «أما قرأتم قط فى الكتب أن الحجر الذى رذله» أى «تركه» البناءون صار رأسا للزاوية من قبل الرب، كان هذا عجيبا فى أعيننا، من أجل هذا أقول لكم: إن ملكوت الرب سينزع ويعطى لأمة أخرى تصنع ثمرته».
وحجر الزاوية المتمم للبناء فى حديث المسيح هو محمد؛ موضع اللبنة المتممة للبيت الذى أقامه الأنبياء السابقون، وهذا مطابق تماما لحديث الرسول الذى أعطى لكل نبى حقه وجعل كل واحد منهم حلقة فى سلسة الهداية والرشاد» مثلى ومثل الأنبياء ومن قبلى كمثل رجل بنى بيتا فحسنه وجمله إلا موضع لبنة فى زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟!، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين.
وبعيسى ختم الله الأنبياء الذين أرسلهم لبنى إسرائيل، وبمحمد انتقلت النبوة من بنى إسرائيل لأمة العرب ولكن محمدا أرسل للناس كافة ليكتمل به صرح النبوة العظيم.
إن كل نبى يبشر بالآخر ويقدمه للدنيا سعيدا ومسرورا بمن سيكمل الرسالة ويحمل علم الهداية من بعده.
إنه لدرس عظيم بين الذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله من جهة، وبين أنبياء الله بعضهم بعضا من جهة أخرى، ولا يتشابه ويتقارب محمد وعيسى عليهما السلام ان فى الإخوة والنبوة وحسب بل يتشابهان أيضا فى مفردات الرسالة الأخلاقية التى بعثا بها. فكلاهما تعرض للاضطهاد من قومه، وكلاهما هاجر فى سبيل الله، الأول إلى المدينة، والثانى هاجر مع أمه إلى مصر.
وكلاهما تحمل الأذى من قومه بدون أن يدعو عليهم، فالمسيح لم يدع على أحد أبدا، ومحمد كان يؤذى من قومه ويضرب فيقول «اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون». وكلاهما كان متواضعا هاضما لذاته، فالمسيح يقول: «من قال إنى صالح، فليس أحد صالح سوى الله»، وليس هذا ببعيد عن قول الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) لمن خاف منه «هون عليك يا أخى، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد ــ طعام بسيط من طعام الفقراء فى مكة».
وقد أدرك برنارد شو هذا الاتفاق حين قال: «أقرب رسالتين لبعضهما هى رسالة محمد والمسيح»، فسلاما عليهما فى المرسلين وفى الجنان وفى كل حين.