مثلما حدث لحقل الفقه الإسلامى الذى أقحم كل من هب ودب نفسه فى التحدث باسمه من خلال نشر ادعاءات دينية خاطئة، وبلادات تخالف العقل والمنطق والقيم، واستعمالات دنيوية انتهازية لتحقيق مكاسب سياسية واجتماعية، فكذلك يحدث الآن الأمر نفسه بالنسبة لحقل التاريخ العربى.
فجأة بدأنا نرى أعدادا متزايدة من المجانين والمهرًّجين واليائسين من الحاضر والمستقبل يتنطعون للحكم على التاريخ العربى بتعابير بذيئة من الشماتة والسب والشتم، أو بانتقاء متعمد لأحداث صغيرة محدودة واعتبارها كظواهر عامة تعيب هذه الأمة، أو بترديد ببغائى لما قاله هذا المستشرق أو ذاك الملفق الصهيونى النزعة والأهداف.
الهدف الأساسى من هذه الحملة واضح، وهو زرع الشكوك والخجل من تاريخ أمتهم فى أذهان الشباب العرب من جهة، والعمل على تهميش وتشويه أحد أهم مكونات الهوية العروبية القومية المتمثل فى التاريخ العربى المشترك.
تزوير التاريخ وتشويه معانى أحداثه هو ظاهرة عالمية عرفتها الكثير من المجتمعات لأسباب كثيرة، لكن ما يحدث عندنا، فى بلاد العرب، هو محاولة خبيثة لاستغلال موضوع التاريخ ونقد بعض أحداثه لتجاوزها، استغلاله كأداة سياسية وثقافية وطائفية للإمعان فى تمزيق هذه الأمة والقضاء على كل ثابت من ثوابت هويتها المشتركة، حتى يعيش كل جزء من هذه الأمة فى عالمه الخاص ومشاكله الذاتية البحتة. عند ذلك سيسهل لقوى الاستعمار والصهيونية الاستفراد بكل جزء على حدة لإخضاعه واستعباده ونهب ثرواته.
***
ولذلك فإن الطريقة التى يتعامل بها البعض مع التاريخ العربى، عبر الكتابات والمقابلات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعى، مليئة بالأخطاء والأهداف المشبوهة القابعة وراء أقنعة خادعة، وتحتاج هى الأخرى لفضح مراميها ومنهجيتها غير العلمية وغير الموضوعية.
أولا: يركز الكثيرون من هؤلاء على التاريخ السياسى ويتعمدون سلخه من التواريخ الأخرى العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعمرانية والفكرية والأدبية، بل وحتى العلمية. إنهم بهذا يتجنبون دراسة التاريخ الحضارى العربى الملم بكل الجوانب الحياتية.
إن التاريخ السياسى حقل مليء بالأخطاء والخطايا ويتميز بفترات استبداد حالكة السواد والقسوة. لكن الحكم على شخصية الأمة الطبيعية ومزاجها الحياتى وسلوكياتها وإمكانياتها الحضارية الإنسانية من خلال تاريخها السياسى وحده فيه ظلم كبير واختزال غير موضوعى. فالسياسة مهمة للغاية ولكن الحياة البشرية لا يمكن أن تختصر فيها.
ثانيا: إن إصرار البعض على اعتبار كل مصادر التاريخ العربية القديمة صالحة للحكم على التاريخ العربى وعلى الأخص السياسى منه، فيه اعتباطية. فالقاصى والدانى يعرف أن بعض تلك المصادر قد أثرت فى كتابتها المصالح والأهواء والتعصبات المذهبية والتفاخرات القبلية. كما أن منهجيات كتابتها قد تباينت فى انضباطها العلمى وفى موازين فحصها للأمور، خصوصا أن جزءا هاما كان عبارة عن تداولات شفوية تعتمد على أسانيد تعتريها الكثير من التساؤلات.
من هنا فإن وصفا لحدث أو قولا عزى لهذا الفاعل فى الحياة العامة أو ذاك قد يكون لغو مجالس أو دردشة عابرة أو تخيلا مريضا. فهل حقا يمكن الحكم على أمة من خلال أوصاف أو أقوال عابرة هنا وهناك؟ لكن هذا ما يفعله البعض، إذ يهيجون ويشككون ويسخرون ويستنتجون اعتمادا على تلك الشذرات من سرد الأخبار والأقوال.
***
لقد تعبنا، نحن العرب، من ادعاءات وكتابات المستشرقين التى قرأت تاريخنا لتنشر فيما بيننا وفى العالم بأننا أمة قابلة للتخلف والكسل وقبول الاستبداد والعيش فى فوضى دائمة وصراعات لا تهدأ. ولقد اختلطت كتاباتهم وتفاسيرهم بأغراض وإملاءات استعمارية من أجل تأكيد مقولة مركزية التاريخ الحضارى فى الغرب دون غيره.
كما فنَد الكثيرون من المؤرخين والمفكرين العرب تلك المقولات. لكن ما يهمنا ليس استرجاع تاريخ ذلك الافتراء وإنما الإشارة إلى أنه يعود بقوة فى أيامنا الحالية على يد كل يائس أو غاضب أو أحمق من أبناء الأمة العربية نفسها. وهى ظاهرة تتلقفها الدوائر الاستخباراتية الاستعمارية والصهيونية لتلعب بآثارها السلبية على وعى الجيل الجديد لتحقيق مآربها التجزيئية ومحاربتها لكل فكر يسعى لتوحيد وإنهاض هذه الأمة.
نحن هنا بالطبع لا نشير إلى محاولات المؤرخين الاختصاصيين وكتابات، الملتزمين الغيورين على مسار أمتهم النهضوى، للقيام بتحليل الماضى ونقده وإعادة تركيبه من أجل منع هيمنته على الحاضر من جهة، ومن أجل الاستفادة من نقاط إنجازاته وتألقاته فى شتى المجالات لبناء المستقبل من جهة أخرى.
نلاحظ على الأخص محاولات البعض لهدم أو تشويه ما تعتبر الشخصيات الأمثولة التاريخية، والتى نالت مراتب الاحترام والإعجاب والاعتزاز فى الوجدان الشعبى العربى عبر القرون. ويتركز هذا الهدم أو التشويه على التفتيش عن نواقص أو انحرافات فى تصرفات أو سلوكيات هذه الشخصية التاريخية أو تلك. وهى نظرة طفولية لا تقبل أقل من الصفات الكاملة الملائكية فى من تحب من الأبطال والشخصيات الأمثولة. وينسى هؤلاء المهووسون بالتفتيش عن النواقص، مع تعمُد لتناسى الجوانب المشرقة المشرفة فى تلك الشخصيات التاريخية، أن البشر ليسوا ملائكة، ولا هم أنبياء معصومون.
لنذكر هؤلاء المهووسون بأن جورج واشنطن الأمريكى وونستون تشرشل الإنجليزى ونابليون الفرنسى هم أبطال فى الذهن الجمعى عند تلك الأمم، وذلك بالرغم من نواقصهم الشخصية أو السلوكية المعروفة. لكن الأمم الواعية المعتزة بتاريخها تركز على البطولات والإنجازات والتألق الشخصى فى أبطالها التاريخيين، بدلا من التركيز على نواقصهم البشرية.
الهجمة المجنونة على تاريخنا ورموزنا العامة التاريخية ليست بريئة، إذ يختلط فيها الجهل والهلوسات عند البعض بالخطط الاستخباراتية الاستعمارية والصهيونية، لتصبح تدنيسا للتاريخ يحتاج لمواجهة.
dramfakhro@gmail.com