التعامل مع إرث الرئيس السابق
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 31 يناير 2021 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
لعل التساؤل الأول الذى يطرحه رئيس الدولة الجديد على نفسه عندما يتولى منصبه، أو ربما حتى وهو على أهبة الاستعداد للقيام بدوره على قمة سلطات دولته، هو ماذا يفعل بإرث الرئيس الذى سبقه، وطبعا ليس المقصود هنا ثروة الرئيس السابق، وإن كانت تمثل مشكلة عندما تكون قد تضخمت خلال فترة توليه لمنصبه، وآلت إليه بطرق غير قانونية، وهى قضية لا تكون محل نقاش فى كل الدول، ولكن المقصود بالإرث هنا مجمل السياسات التى ارتبطت باسم الرئيس السابق، وكانت سببا فى شعبيته، أو على العكس جلبت عليه سخط قطاعات مهمة من المواطنين. ما هى العوامل التى تحدد درجة حرية الرئيس الجديد فى التعامل مع إرث سلفه؟ وما هو مدى الحرية التى يتحرك فى إطارها حتى يقرر ما يشاء بشأنها؟ وهل يتوقف الأمر على سمات شخصيته أم أن هناك بعض العوامل الموضوعية التى تمكننا من التنبؤ مقدما بما يمكن أن يقدم عليه؟
أهمية هذا التساؤل مطروحة بقوة هذه الأيام فى الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كانت الخطوات الأولى التى اتخذها الرئيس جو بايدن عند دخوله إلى البيت الأبيض هى إصدار بعض القرارات التى ألغت بجرة قلم ما فعله الرئيس دونالد ترامب الذى انتهت ولايته فى نفس اليوم، مثل حظر سفر مواطنين من عدة دول إسلامية إلى الولايات المتحدة، وعدم استكمال بناء السور العازل على حدود بلاده مع المكسيك، والعودة إلى اتفاق المناخ الذى انسحبت منه إدارة ترامب، فضلا عن استئناف عضوية الولايات المتحدة فى منظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى إعلان عزم الإدارة الجديدة على العدول عن الانسحاب من الاتفاق الدولى الخاص بالبرنامج النووى الإيرانى. وهو على هذا النحو يكرر، وفى الاتجاه المعاكس، ما فعله ترامب نفسه عندما تولى رئاسة الولايات المتحدة منذ أربع سنوات، فقد انقلب منذ أيامه الأولى على مجمل سياسات أوباما سواء فيما يتعلق باتفاق المناخ أو إيران أو قضايا أخرى لم يملك بالنسبة لها نفس القدر من الحرية مثل التأمين الصحى للمواطنين الأمريكيين.
يبدو مسلك كل من بايدن وترامب غير مألوف فى دول الديمقراطيات الليبرالية، فليست هناك أمثلة معروفة عن مثل هذه التحولات فى سياسات الدول بمجرد تولى رئيس جديد للسلطة التنفيذية، سواء كان رئيسا للجمهورية أو رئيسا لمجلس الوزراء. فعلى كثرة تغير الحكومات فى دول أوروبا الغربية أو الوسطى لا نشهد ممارسات مماثلة فى بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا وغيرها من دول ما اصطلح على تسميته بدول المعسكر الغربى عموما، ولكن مثل هذه التحولات مألوفة خارج هذا المعسكر. ما جرى فى مصر مثلا عندما تولى الرئيس السادات السلطة أمره معروف. طبعا ادعى الولاء الكامل لميراث سلفه جمال عبدالناصر، ولكنه بحسب النكتة الشهيرة، سعى إلى مسحه تماما سواء فى مجالات الاقتصاد أو السياسة، وفى المجالات الداخلية والخارجية.
ما هى تلك العوامل التى تحدد مدى الحرية التى يتمتع بها رئيس الدولة فى التعامل مع إرث سلفه؟ سوف يلتمس هذا المقال الإجابة عن هذا السؤال فى خمسة من العوامل وهى حدود طبيعة النظام السياسى والانتماء الحزبى أو الانتماء الأيديولوجى لكل من الرئيسين، وشخصية الرئيس والتقاليد التاريخية فى بلده. وإلى بعض التفصيل:
أولا: طبيعة النظام السياسى
يحدد النظام السياسى مدى الحرية التى يتمتع بها رئيس الدولة فى ممارسة سلطاته. بكل تأكيد مدى الحرية أوسع فى النظم السلطوية. سلطات الديكتاتور مطلقة فيمكن له أن يفعل ما يشاء دون رقيب أو حسيب، وفى النظم السلطوية الحديثة يجند الرئيس الجديد كل أجهزة الدولة لتبرير انقلابه على سياسات سلفه من حزب سياسى، إلى مؤسسات إعلامية، إلى قادة رأى يشكلون آراءهم بحسب ما يتصورون أنه هوى هذا الرئيس الجديد، ولا توجد معارضة يمكن لها أن تطرح وجهة نظر مغايرة أو تحتج على ما يقوم به. صحيح أن رئيس الدولة فى الملكيات المطلقة يحظى بدوره بسلطات واسعة، ولكن كونه ابنا للملك السابق، أو من نفس أسرته، قد يشكل قيدا معنويا على إمكان تنكره لسياساته، وحدود هذه الحرية تضيق إلى أدنى حد فى ظل الملكيات الدستورية التى يسود فيها الملك ولكنه لا يحكم، وهو نفس الأمر فى الجمهوريات البرلمانية التى تئول فيها السلطة التنفيذية لرئيس الوزراء، ولكن داخل نظم الديمقراطيات الليبرالية يتمتع رئيس الدولة فى الجمهوريات الرئاسية بسلطات واسعة وباستقلال نسبى فى مواجهة السلطة التشريعية، وذلك على عكس رئيس الوزراء فى كل من الجمهوريات أو الملكيات الدستورية، فالأخير مقيد بحدود الأغلبية التى يملكها حزبه فى البرلمان، وبوجود معارضة وأحزاب أخرى يمكن أن تنقلب عليه لو أحدث تغييرا كبيرا فى السياسات مقارنة بسابقه، بل هو يخشى أن يخرج عن طاعته بعض أعضاء حزبه احتجاجا على هذا التحول، ومن ثم يفقد أغلبيته البرلمانية، ويضطر للاستقالة أو الدعوة لانتخابات جديدة لا يعرف ما إذا كانت ستعيده إلى موقعه السابق. أما رئيس الدولة فى الجمهوريات الرئاسية فله سلطات واسعة فى رسم السياسات والإشراف على تنفيذها، وهو يحتاج تأييد المؤسسة النيابية فقط إذا كانت سياساته تقتضى اعتمادات مالية أو تشريعات جديدة، وهو محظوظ عندما يملك حزبه الأغلبية داخل المؤسسة النيابية، ولكنه ليس مضطرا للاستقالة عندما لا تؤيده المؤسسة النيابية فى توجهاته الجديدة، ويترك الأمر لحكم الناخبين عليه عندما تنتهى مدته فيتقدم طالبا تجديد مدته من المواطنين. وفضلا على ذلك فمما يقلل من احتمالات تبنى رئيس حزب الأغلبية فى النظم البرلمانية لسياسات تناقض سياسات سلفه تضافر الواقعية السياسية مع قدر من الانتهازية تجعل رئيس حزب الأغلبية يتبع نفس سياسات الحزب الذى تغلب عليه فى الانتخابات عندما تحظى هذه السياسات بقدر من التأييد بين المواطنين، ولكنه ينسبها لنفسه منكرا أن تكون هذه استنساخا لما فعله سابقوه، فلم يلغ حزب المحافظين فى بريطانيا عندما عاد إلى الحكم فى سنة 1951 التأميمات التى كان حزب العمال قد أقدم عليها، وبدوره لم يلغ حزب العمال فى سنة 1997 إجراءات الخصخصة التى نفذتها حكومة تاتشر المحافظة قبله، وأخيرا فقد ضاقت الفوارق الأيديولوجية بين الأحزاب الحاكمة والأحزاب المعارضة فى دول الديمقراطيات الليبرالية. ولذلك لم يعد المواطنون يشعرون بفوارق كبرى فى سياسات الحكومات فى فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا سواء كان الديجوليون أو المحافظون أو الديمقراطيون المسيحيون على رأس الحكومة أو كان الاشتراكيون أو العمال أو الاشتراكيون الديمقراطيون هم الذين يديرون السلطة التنفيذية.
ثانيا: الانتماء الحزبى
تقل احتمالات انقلاب رئيس السلطة التنفيذية على سياسات سابقه عندما ينتميان إلى نفس الحزب السياسى، ولذلك نجد استمرارا فى السياسات فى الولايات المتحدة الأمريكية بين إدارات كلينتون وباراك أوباما وجو بايدن، ونفس الأمر بين سياسات حكومتها عندما تولاها جمهوريون مثل رونالد ريجان وجورج بوش الأب وجورج بوش الابن حتى وإن لم يتعاقبوا جميعا على السلطة مباشرة.
ثالثا: الانتماء الأيديولوجى
السبب فى استمرار نفس السياسات فى ظل رؤساء ينتمون إلى نفس الحزب هو أنهم يدينون جميعا بنفس العقيدة السياسية التى تستوحى منها سياساتهم، ويتم تبريرها على أساسها، ولكن الانتماء الأيديولوجى أو رؤية العالم تكون عاملا مستقلا عندما لا تكون هناك أحزاب سياسية فاعلة، ولكن تتفاوت الرؤية الفكرية بين رئيس وسابقيه، ومن ثم ينقلب الرئيس الجديد على سياسات الرئيس السابق. وهذا ما حدث فى مصر بعد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر وخلفه الرئيس السادات. من الواضح أن رؤية السادات للعالم اختلفت جذريا عن رؤية عبدالناصر، وإن لم يجرؤ السادات على إعلان اختلافه مع عبدالناصر وقت حياة الأول. ولذلك جاء انقلابه على سياسات عبدالناصر انطلاقا من رؤية للعالم مختلفة سواء بالنسبة لقضايا العدالة الاجتماعية أو ملكية الدولة لأدوات الإنتاج أو الموقف من العروبة وإسرائيل وسياسات مصر الخارجية عموما. كما نجد استمرارا فى السياسات بين رؤساء مصر الذين استمروا فى الحكم بعد عبدالناصر من السادات إلى مبارك إلى الرئيس السيسى، فكلهم لهم نفس رؤية العالم فى البعد عن الاشتراكية وملكية الدولة لأدوات الإنتاج والصلح مع إسرائيل والحفاظ على علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وتهميش البعد العروبى فى سياسات مصر الخارجية ولذلك لم ينقلب أى منهم على سياسات سابقيه. ومن ناحية أخرى كانت منطلقات الرئيس الدكتور محمد مرسى الأيديولوجية مختلفة تماما عن الرؤساء الذين سبقوه، ومن ثم فقد كان من شأنه لو استمر فى السلطة أن يأخذ مصر إلى مسار مناقض، وقد كان ذلك أهم أسباب الاحتجاج المجتمعى من قطاعات واسعة من المصريين على سياساته.
رابعا: سمات شخصية الرئيس
كذلك قد تكون بعض دوافع الاختلاف عن سياسات الرؤساء السابقين هى رغبة شخصية من الرئيس الجديد فى أن يتمايز عن الرؤساء السابقين، ولذلك يجتهد بعضهم فى ابتداع سياسات مختلفة أو ترك بصمتهم على تشريعات معينة، وبعضهم يطرح مشروعات كبرى تقترن باسمه. أو حتى إضافات معمارية أو مؤسسات تخلد ذكراه بعد أن ينقضى عهده. أعجبنى كثيرا حرص كل رئيس فرنسى أن يترك علامته فى العاصمة الفرنسية فى عمل ثقافى أو فنى. جورج بومبيدو الذى خلف ديجول أنشأ مركز بومبيدو وهو مكتبة ومركز فنون، وفاليرى جيسكارد ديستان الذى جاء بعده كان صاحب فكرة تحويل محطة سكة حديد إلى متحف لفنون القرن التاسع عشر، وفرانسوا ميتيران الاشتراكى ترك أوبرا الباستيل وهرم متحف اللوفر، وجاك شيراك أضاف إلى باريس متحف كى برانلى لتراث شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وعلى الرغم من أن تلك لم تكن نيته فلا شك أن بناء السد العالى هو الذكرى الخالدة التى تركها جمال عبدالناصر لشعب مصر، أو هو واحد من بصماته العديدة. وحرص رؤساء مصر الذين خلفوه على أن يتركوا ما يذكر الأجيال القادمة بهم. مدينة السادات مثل على ذلك، وكذلك أوبرا القاهرة التى شيدت فى ظل الرئيس حسنى مبارك والذى كان يتمنى نجاح مشروع استصلاح الأراضى فى توشكى ليكون هديته الباقية لمصر، والرئيس السيسى سيترك علامة باقية فى العديد من الطرق السريعة والكبارى وعاصمة إدارية.
خامسا: التقاليد التاريخية
ويضاف إلى كل هذه العوامل الاستجابة لتقليد تاريخى متوارث عن الماضى وهو محو كل ذكرى للرؤساء السابقين حتى لا يبقى سجل لما فعلوه، بل وانتحال الفضل فيما فعلوه ليقترن باسم من جاء بعدهم. طبعا اتخذ ذلك صورا عنيفة فى ظل الدولة العثمانية وربما فى ظل الملكيات المستبدة عموما وذلك بتخلص الجالس على العرش من كل أبناء الملك الراحل الذين يمكن أن ينافسوا ابنه على الحكم، ويقال إن رمسيس الثانى كان يمحو أسماء الملوك السابقين على الآثار التى تركوها ويضع بدلا منها اسمه. لم تختف هذه التقاليد لا فى مصر ولا فى دول أخرى. اختفت الإشارة إلى الإنجازات الرائعة للعهد الليبرالى فى مصر سنوات طويلة بعد ثورة يوليو 1952، كما تندر الإشارة فى كتب التاريخ المدرسية فى الوقت الحاضر لاسم وسياسات جمال عبدالناصر، وسميت بحيرة ناصر ببحيرة السد العالى، وسار العمل فى إعداد مقر مجلس قيادة ثورة يوليو بسرعة السلحفاة، أو التباطؤ فى عرض فيلم ناصر على قنوات التلفزيون ولا أدرى أخيرا من الذى أقدم فى عهد السادات على إشعال الحريق فى مقر بورصة الإسكندرية السابق الذى أعلن عبدالناصر من شرفته تأميم قناة السويس.