الموت الجميل على تخوم أوكرانيا

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 31 يناير 2022 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

إلى أبعد من حرص موسكو على كبح جماح التوجهات الأطلسية لغالبية دول الفضاء السوفييتى السابق، مقابل التعاضد الغربى لتحجيم الوصاية البوتينية على دول شرق أوروبا، يمضى التصعيد المتبادل بين موسكو والغرب، على وقع الأزمة الأوكرانية المحتدمة.
ما عاد بوتين يخفى مآربه للتبشير بنظام عالمى متعدد الأقطاب، بدلا من ذلك الأحادى القطبية، الذى أشهره الأمريكيون قبل ثلاثة عقود مضت، بينما لم يتورع عن المجاهرة برفضه، خلال خطابه الشهير أمام مؤتمر الأمن الأوروبى بميونيخ عام 2007. ولعل الرئيس الروسى يصبو إلى استعادة مكانة بلاده الكونية كقطب عالمى يناطح الولايات المتحدة، ويطوى صفحة هيمنتها المنفردة على نظام دولى، دشنه الرئيس الأمريكى الأسبق بوش الأب على أنقاض الاتحاد السوفييتى المتهاوى فى ديسمبر1991، فيما اعتبره بوتين أضخم مأساة إنسانية، وأسوأ كارثة جيوسياسية فى القرن العشرين. بدوره، أكد وزير الخارجية الروسى، لافروف، أن المعاهدة الأمنية التى تطرحها بلاده، تمثل رؤية واقعية لضمان أمن أوروبا على المدى الطويل، وطريقة مثلى للتعايش السلمى البناء بين روسيا والغرب.
من وجهة نظر واشنطن والناتو، يشكل الغزو الروسى المحتمل لأوكرانيا، تقويضا لدعائم نظام دولى، أنتج اتفاق بودابست عام 1995،الذى تخلت بموجبه أوكرانيا عن ترسانتها النووية، مقابل استعادة سيادتها واستقلالها الآمن. ومن ثم، يتحسب الغرب، بحذر وترقب، لمساعى بوتين الهادفة لاستعادة السيطرة الروسية على الدول السوفييتية السابقة، توطئة لإحياء الاتحاد السوفييتى البائد. فقبل قليل، حذر وزير الخارجية الفرنسى لودريان، موسكو من التخطيط لعقد مؤتمر«يالطا ــ2»، بغية إعادة تقسيم دوائر النفوذ بين موسكو والغرب، على غرار «يالطا ــ1»، الذى رسم حدود أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية.
بموازاة ذلك، انبرت واشنطن فى تقوية أواصر التحالف الأوروأطلسى لمجابهة روسيا والصين، مع تقليص وتيرة التقارب الروسى الأوروبى، وإجهاض محاولات موسكو لتوسيع الفجوة بين مكونات المنظومة الغربية. فلطالما راهن بوتين على تردد بعض الحلفاء الأوروبيين فى الانخراط ضمن جولة تاسعة ومتنوعة من الإجراءات العقابية القاسية ضد روسيا، لاسيما تعطيل ترخيص خط أنابيب «نورد ستريم 2»، الذى سيضاعف صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا عبر بحر البلطيق. إذ تتخوف عواصم أوروبية عديدة من الأصداء الموجعة التى قد تستتبعها تلك العقوبات المقترحة على اقتصاداتها. حيث تشكل روسيا أحد أهم الشركاء التجاريين للقارة العجوز، كما تزودها بقرابة نصف احتياجاتها من الغاز والنفط، بما يتيح لبوتين سلاحا جيوسياسيا بالغ الخطورة.
انطلاقا من سوابق تاريخية، تأبى روسيا إلا انتزاع موافقة أمريكية مكتوبة على ضماناتها الأمنية. فإبان انهيار الاتحاد السوفييتى، حنثت واشنطن بتعهدها عدم التغلغل الجيواستراتيجى فى الفضاء السوفييتى البائد، أو تهديد أمن روسيا ومصالحها القومية. حيث مضى حلف الناتو فى سياسة التوسع شرقا، ليضم 14 دولة سوفييتية سابقة. وفى قمته ببوخارست عام 2008، تبنّى قرارًا بقبول عضوية أوكرانيا وجورجيا، دونما تحديد موعد زمنى لذلك. وبناء عليه، اقترحت موسكو على الغرب معاهدة لخفض التصعيد بالأزمة الأوكرانية. تتضمن تخلى الناتو عن ضم أعضاء جدد، مثل أوكرانيا وجورجيا وفنلندا، والسويد للناتو، وتقييد تموضع قواته فى جمهوريات سوفييتية سابقة، بالإضافة إلى سحب منظوماته التسليحية الاستراتيجية، فضلا عن خمسة آلاف جندى بعتادهم من بولندا ودول البلطيق ورومانيا وبلغاريا. علاوة على اتخاذ التدابير المنوطة بعودة الوضع الاستراتيجى الذى كان قائمًا قبل العام 1997، فى الدول التى التحقت بالحلف الأطلسى لاحقا.
تزامنا مع امتناع 14 دولة سوفييتية سابقة،عن فض ارتباطها الاستراتيجى مع الناتو، وإنهاء الوجود العسكرى الأمريكى على أراضيها، أعرب أمين عام الحلف الأطلسى عن رفض أعضائه الثلاثين للمقترح الروسى الذى يتوخى إقامة نظام أمنى جديد فى أوروبا. أما واشنطن، التى تحفظت عليه كتابة، فقد حسبته تقييدا لحرية التحركات الجيوسياسية للناتو، وانتقاصا من سيادة دول شرق أوروبا، ومصادرة لحقوقها السيادية فى رسم سياستها الخارجية. كما اعتبرته إدارة بايدن تهديدا لما تبقى من صدقية وموثوقية التزاماتها إزاء حلفائها وأصدقائها حول العالم، بعد الانسحاب المُفجع من أفغانستان. ومن ثم، شرعت فى تكثيف التموضع العسكرى بشرق أوروبا، بذريعة تعزيز قوة الردع الأوروبية، وحماية الجبهة الشرقية للناتو. بما يكريس التبعية الاستراتيجية الأوروبية لواشنطن، ويئد أية مبادرات بشأن تفعيل الذراع العسكرية للاتحاد الأوروبى.
برأى وزير الخارجية الفرنسى لودريان، يظن بوتين أن احتواء الأزمة الأوكرانية الحالية، إنما يتأتى من سبيلين: أولهما، استعادة «مبدأ بريجنيف» لعام 1968، الذى قلص سيادة دول الكتلة الاشتراكية لصالح إمكانية التدخل العسكرى الروسى بها، لتقويض أى تغيير يهدد أمن موسكو ومصالحها. وثانيهما، إبرام اتفاق «يالطاــ2»، بما يكفل إخلاء شرق أوروبا من الوجود العسكرى الأمريكى والأطلسى، ويتيح تجميد سياسة «الباب المفتوح» الأطلسية لاستقطاب الدول السوفييتية السابقة، مع وضع موازين قوى جديدة تُشير إلى النفوذ الروسى فى أوروبا والفضاء السوفييتى.
ربما يستند بوتين فى تصوره، على تمرير الرئيس الأمريكى الأسبق فرانكلين روزفلت، «اتفاق يالطاــ1»، فى مثل هذه الأيام من عام 1945، ليخول ستالين، الذى يعتبره بوتين أعظم حكام روسيا فى القرن الماضى، إذ تخطى بالإمبراطورية حدود آل رومانوف، وأوجد روسيا النووية، وجعلها قوة عظمى، ضم دول البلطيق، وتوسيع الحدود الغربية لبولندا. حيث عمد روزفلت مكافأة السوفييت على دحرهم اليابان وألمانيا إبان الحرب الكونية الثانية، بجيش فاق عدده وعتاده جيوش الحلفاء مجتمعة، وتجاوزت خسائره المادية والبشرية، خلالها، نصف إجمالى خسائرهم. كذلك، ابتغى روزفلت، حينئذ، استجداء الدعم السوفييتى لمساعيه الرامية إلى إنشاء منظمة الأمم المتحدة فى أبريل من ذات العام.
أما اليوم، فيتوق، بايدن، إلى إجهاض أى تحالف استراتيجى مرتقب بين موسكو وبكين، وعرقلة أية شراكة جيوسياسية أوروآسيوية ممكنة، كما يتوسل ضغوطا تمارسها موسكوعلى طهران، لحمل الأخيرة على العودة للاتفاق النووى لعام 2015، بغير مماطلة، ومن دون شروط تعجيزية. فى المقابل، يتوسم بوتين فى بايدن، مراعاة مخاوف موسكو الاستراتيجية المشروعة، من خلال موافقة كتابية على ضماناتها الأمنية، مع العدول عن عرقلة تشغيل خط أنابيب «نورد ستريم ــ2»، أو تقويض الدور الروسى الحيوى فى أمن الطاقة الأوروبى. غير أن مرامى بوتين اصطدمت برفض أمريكى، ينبعث من مخاوف غربية، تلمس فى الطرح الروسى المريب، نزوعا مغرضا لتأسيس توازن قوى جديد، لا يروق للتحالف الأوروأطلسى، الذى يتملكه قلق عارم من الطموحات الإمبراطورية الجامحة للرئيس الروسى، المتطلع إلى عالم متعدد الأقطاب، تتغير فى كنفه قواعد اللعبة بين موسكو والغرب.
لم يخل الموقف الأمريكى حيال الأزمة الأوكرانية من رسائل ملحة لبكين، التى تشاطر موسكو تحركا دءوبا لطى صفحة الهيمنة الأمريكة المنفردة على العالم. ففى دعم مبطن لموسكو، أكد وزير الخارجية الصينى لنظيره الأمريكى، أن تسوية الأزمة الأوكرانية تكمن فى العودة إلى اتفاقية مينسك لعام 2014، مشددا على أن ضمان الأمن الإقليمى المستدام والمتوازن، لن يتأتى من خلال تعزيز وتوسيع التكتلات العسكرية، مطالبا بضرورة أخذ المخاوف الأمنية الروسية على محمل الجد. بالتزامن، كان الطيران الحربى الصينى يباشر ثانى أضخم توغلاته الاستراتيجية بمنطقة «تمييز الهوية لأغراض الدفاع الجوى التايوانية»، «أديز»، والمتداخلة مع مثيلتها الصينية، مستخدمة فى ذلك 24 مقاتلة من طراز «جاى ــ16»، و10 أخريات من طراز «جاى ــ 10»، إضافة إلى قاذفة «إتش ــ 6» ذات التجهيزات النووية. وهو التغلغل الذى تزامن، هذه المرة، مع مناورات بحرية أمريكية ــ يابانية ببحر الفلبين، بمشاركة عشر سفن حربية أمريكية، بينها حاملتا الطائرات «يو إس إس كارل فينسن»، «يو إس إس أبراهام لينكلن».
برغم التصعيد المتبادل، تلوح رغبة أطراف الأزمة الأوكرانية فى تجنب الانزلاق إلى صدامات عسكرية غير مبررة استراتيجيا، فى لحظة تاريخية بالغة الحساسية من صيرورة النظام الدولى. فعبر حسابات استراتيجية دقيقة، لا تتجاهل الارتباك الاقتصادى، كما لا تغفل أمن الطاقة، وأمن الغذاء العالميين، يتراءى للجميع أن الوقت ليس مواتيا لإدراك «موت جميل» على تخوم أوكرانيا. ففى رد منه على اتهام، تشى جيفارا، لموسكو بالتهرب من مواجهة واشنطن عسكريا إبان الأزمة الكوبية عام 1962، استلهم، أنستاس ميكويان، نائب خروتشوف، حينها، مقولة، نابليون الشهيرة: «أى ميتة جميلة؟!»، التى أوردها، تولستوى، فى روايته «الحرب والسلام». فحينئذ قال ميكويان لجيفارا: «هذا ليس الوقت المناسب للموت الجميل».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved