الكتابة فى زمن الهيستريا
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
الأحد 31 مايو 2015 - 8:45 ص
بتوقيت القاهرة
الكتابة متعة وسلطة أيضا. تبدأ فى الكتابة فتتخيل أنك امتلكت ناصية الحلم، تعتقد للحظات أن الجميع يقرأ لك حكومة وشعبا، مؤيدا ومعارضا، تسرح بخيالك أحيانا فتتخيل شخص بعينه يقرأ لك، فتبدأ فى مخاطبته بسطورك وكأنك تتحدث معه. تأخذ قسطا من الراحة فتسرح بخيالك وتسأل نفسك: هل أنا آمن؟ ينشر لك مقال فيحوز إعجاب البعض واستنكار البعض الآخر فتحاول مدفوعا برغبة الشهرة أن تمسك العصا من المنتصف فتخسر الجميع وفى المقدمة تخسر مصداقيتك بالطبع. الكتابة فى أوقات الهيستريا أصعب بكثير، لأنك تحتاج إلى طاقة مضاعفة لمواجهة آراء لا تتوقف عند حد انتقادك، وهو أمر مقبول بالطبع، ولكن تصل إلى حد تخوينك وسبّك بأقذع الألفاظ اعتقادا أنك تنتمى لمؤامرة كونية على البلاد.
فى الآونة الأخيرة، قررت الغوص بشكل أكثر عمقا فى خلفيات وآراء هؤلاء المخونين دائما وأبدا. وجدت أن معظمهم شخصيات حقيقية وليسوا لجانا إلكترونية كما يعتقد البعض. المؤلم أنهم يعتقدون بالفعل فيما يقولون، أفهم أن خصما سياسيا أو فكريا يقوم بتشويهى لأغراض مختلفة، لكن المؤلم أن هؤلاء بالفعل مدفوعون بالخوف والهيستريا الحقيقية على مستقبل البلد. ومن هنا فتجاهلهم والترفع عما يقولون ليس بالضرورة القرار الحكيم. أحاول فى هذا المقال التفاعل مع الآراء المعارضة بقسوة أحيانا وبتخوين فى أحيان أخرى، لعلنا نتمكن من ترشيد الموقف المحتقن.
•••
يتساءل أحد الزملاء الأعزاء، هل هذا وقته؟ يقصد هل هذا وقت الانتقاد؟ أليس من الأفضل أن نقف بجانب دولتنا وهى فى هذه الظروف العصيبة؟ فأرد: مصر والمنطقة العربية طوال الوقت فى أوقات عصيبة واستثنائية، هذا قدرنا وقدر منطقتنا، فهذا احتلال يستمر سنوات، وهذه حرب عالمية وتلك دولة تعلن قيامها على أنقاض جيوشنا العربية وهذه ثورة تحول مصر من ملكية إلى جمهورية، ثم عدوان ثلاثى وتأميم وحرب فى اليمن، فهزيمة عسكرية ثم انتصار يحرر بعض الأرض ثم عقد كامل لاستعادة باقى الأرض ثم أزمات اقتصادية وتصاعد موجة الإرهاب وحرب الخليج الأولى والثانية ثم احتلال العراق ثم ثورة تتراجع فثورة جديدة فتفويض ففض اعتصامات فإرهاب.. إلخ. فمتى نكتب إذن؟ لو توقفنا عن الكتابة والنقد حتى تستقر الأمور، فسنعيش حياتنا كلها إما مخروسين أو منخرطين فى زفّات التأييد والنفاق، فهل هذا هو المطلوب؟
يتساءل قارئ آخر، لصالح من تكتب؟ ولماذا تنشر «الشروق» مقالاتك إلا لو كانت هناك صفقة خفية أو مصلحة ما؟ فأرد، أكتب لصالح ما أعتقد أنه صواب، قد يجانبنى الصواب أحياننا وقد أصيبه فى أحيان أخرى. من الجنون اعتقاد أن كل قلم لابد وأنه يكتب لصالح أحد. لو صحت هذه الفرضية فلنلغِ الكتابة فورا! أما عن «الشروق» فلا أحد يعلم محتوى أى مقال أكتبه سوى قبلها بـ٤٨ ساعة لظروف التصحيح اللغوى والنشر فى الطبعة الأولى، أكتب بشكل مستقل وعلى من يتهمنى بغير ذلك الإتيان بالبينة.
تتساءل سيدة ثالثة، ألا ترى سوى السلبيات ألا يوجد إيجابيات؟ لا أستطيع أن أفرض رأى على الجميع، من حق كل شخص أن يبحث عن إيجابيات، وحينما أشرع فى كتابة مقال لا أضع نصب عينى الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات، لكنى أكتب عما أعتقد أنه مصيرى فى تحديد مستقبل بلدنا. فعلى سبيل المثال، قد يكون هناك شارع تم إصلاحه أو رصفه أو إخلائه من العشوائيات وهو بالتأكيد إيجابية، لكن السطر الذى ستستغرقه كتابة هذه الإيجابية أولى بها أن توجه إلى سلبية غياب البرلمان والتى أراها أكثر مصيرية فى تحديد مستقبل مصر من مجرد إصلاح طريق مثلا.
•••
بمناسبة البرلمان، عدد كبير من التعليقات تتهم من يكتب عن أهميته بالتنظير المنبت عن الواقع وأن الواقع يقول إن الأحزاب ضعيفة والناس لا ترغب فى وجود برلمان. والرد ببساطة أن الناس ضحية ماكينة السلطة والإعلام والنخبة التى تروج لهذه المقولات فيقتنع بها الناس. هناك أحزاب تقليدية وهناك أحزاب ورقية وهناك أحزاب حقيقية تريد العمل والمنافسة ولكنها محاصرة. محاصرة باعتقالات وقتلى فى صفوف أعضائها، محاصرة بخطاب إعلامى يحرض عليها ما لم تتبن خطاب السلطة، محاصرة بأجهزة أمنية ترفض أى حراك فى الشارع أو تفاعل مع الجماهير، فكيف ستعمل؟ ضعفها نتيجة وليس سببا إذن.
صحيح هل يمكن لدولة مثل مصر بها أمية وفقر وجهل وفساد وانحلال أخلاقى أن تشهد ديموقراطية؟ أليس من الأولى أن نقضى على هذه الموبقات أولا حتى نشهد ديموقراطية؟ هنا نسأل، منذ متى ومصر تعانى من فقر وجهل وأمية وفساد؟ منذ ٤٠ عاما؟ ٥٠ عاما؟ أكثر أو أقل؟ إذن لماذا لم تتغير مصر طوال هذه المدة وبقيت هذه الموبقات على حالها؟ مصر لم تكن ديموقراطية، فلماذا انتظرنا خمسون عاما ولم نتغير حالا بل تدهور الحال بشكل أفظع أمام كل هذه المؤشرات؟ وهل لو انتظرنا خمسون عاما أخرى بدون ديموقراطية سنقضى على الفقر والجهل والفساد؟ قطعا لا، بل سنكون فى وضع أسوأ من الآن. الديموقراطية ليست سيارة فارهة أو فيلا فى مارينا نشتريها فقط بعد أن نشبع حاجتنا الأساسية ولكنها شرط ضرورى للقضاء على هذه المشكلات، لأنها تسمح بالتعددية، بالحرية، بالنيابة الشعبية، بتوازن السلطات، بالرقابة، بالمحاسبة والشفافية...إلخ.
بمناسبة الحديث عن الديموقراطية هل يمكن أن ندافع عن الديموقراطية بينما نحن لم نبنى الدولة من الأساس؟ أليس من الواقعية أن نبنى دولة أولا ثم نتحدث عن الحقوق والحريات والتعددية كما قال منظرو العقد الاجتماعى؟ أتعجب حينما يصدر مثل هذا الكلام من دارسى السياسة، هل صحيح أن دولتنا ذات الـ ٧٠٠٠ عام مازالت تُبنى؟ وهل نظرية العقد الاجتماعى (وهى نظرية افتراضية بالأساس) تحدثت عن الدولة الضاربة بجذورها فى التاريخ التى قد تتعرض لبعض المحن أم عن الدول التى مازالت قيد الإنشاء فى القرن السادس عشر؟ هل مصر الآن فى مرحلة ما قبل المجتمعات حقا؟ ثم ألم يحدث تطور فى نظريات التحول الديموقراطى منذ أربعة قرون؟ أين نظريات الموجة الأولى للديموقراطية فى القرن التاسع عشر؟ أين نظريات الموجة الثانية للتحول بعد الحرب العالمية الثانية؟ والموجة الثالثة فى سبعينيات القرن المنصرم وبعد انهيار الاتحاد السوفيتى؟ تاريخ ٧٠٠٠ سنة يتم القفز عليه ببساطة؟ نظريات التحول التى أخذت من علماء السياسة ما يقرب من قرنين لتطويرها لتعبر عن واقع التجارب العالمية يتم تخطيها هكذا لتبرير تأجيل الديموقراطية ومواصلة القمع والشمولية؟
•••
ألا ترون الإرهابيين؟ هل نصالحهم؟ هل نتغاضى عن أفعالهم؟ هل نتحدث عن حقوق الإنسان لبشر يقتلوننا ويفجرون جنودنا ويغتالون رجال داخليتنا؟ الحقيقة أننا نرى وندين ونترحم وندعو على الإرهابيين ومن والاهم أو دافع عنهم، لكننا نأخذ خطوة للأمام ونقول لا تصالحوا الإرهابيين ولكن صالحوا القانون. ما هو السبيل نحو إيقاف الإرهاب والقضاء على أسبابه؟ نعتقد أن المواجهات الأمنية مهمة بلا شك ولكنها غير كافية وحدها وتحتاج إلى مواجهات فكرية وظروف اقتصادية، وبيئة سياسية مغايرة للبيئة التى نعيش فيها. ومن هنا فبعد الإدانة والتعاطف والترحم على شهداء الوطن لابد من أن نبحث عن حلول لإيقاف دائرة العنف، وهذا ما نقوله. استقلال القضاء مع مراعاة الحقوق المدنية والجنائية للمشتبه بهم والمتهمين وإخضاعهم لمحاكمات عادلة هو عين تحقيق الأمن القومى المصرى وإيقاف دائرة العنف فى مصر لا العكس.
ثم يتساءل أحد الأصدقاء أخيرا، هل تعجبك أخلاق المصريين؟ كيف نوفر ديموقراطية وحرية لشعب تدهورت أخلاقه؟ أليس الأولى المطالبة بثورة على أخلاق المجتمع قبل الثورة على السلطة؟ وهنا نتساءل؟ ما هو تعريف ومقياس «تدهور الأخلاق» وهل يمكن وضع مؤشر جمعى للقياس؟ أعتقد أنها مسألة نسبية. ثم كيف سنقوم بهذه الثورة؟ وهل السلطة (الرئيس) يمكن أن يكون رأس حربة هذه الثورة الأخلاقية؟ هذا مستحيل ببساطة. لا يمكن لسلطة أن تصلح الأخلاق. هذه عملية دفع وتدافع طويلة الأمد ستستغرق عقود وهى مرتبطة أيضا بأدوات المحاسبة والشفافية فى المجتمع، ترتبط بتوافر العدل بمعناه المدنى والجنائى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى، مرتبط بتطور قيم المجتمع، وتطور هياكل وخطب مؤسسات التنشئة الاجتماعية فيه من دور عبادة ومدارس وأحزاب وأسرة...إلخ. فأى سلطة هذه التى تتمكن من الثورة على أخلاق المجتمع دون كل الشروط المسبقة التى إن توافرت فلن تكون السلطة سوى فاعل من فاعلين كُثر لهذه التحولات الأخلاقية وليس العكس.
•••
لم تعد الكتابة متعة كما كانت، ومساحة الأمن بمعناها السلطوى والمجتمعى للكُتاب تدهور حتى أنى أدعى أن الكتابة بالفعل لم تعد آمنة، فهى تدفعك إما للسكوت أو للتطنيش أو للنفاق أو لليأس، والمشكلة أن النخب مستجيبة للهيستريا، والشعب مشارك فيها.