تعولم فانغلق..
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 31 مايو 2016 - 10:10 م
بتوقيت القاهرة
لا تزال تروى القصة الشهيرة عن اكتشاف الألمان لجاسوس أمريكى خلال الحرب العالمية من سلوكه فى تناول الطعام. نرويها لأحفادنا ويدرّسونها فى معاهد الاستخبارات. كانت مجرد مصادفة وملاحظة عابرة. أحد نزلاء الفندق يقطع اللحم فى صحنه كالمعتاد، السكين فى يده اليمنى والشوكة فى يده اليسرى، ثم ينقل الشوكة من يده اليسرى إلى يده اليمنى ليضع قطعة اللحم فى فمه. كانت الملاحظة كافية للتعرف على هوية النزيل الحقيقية والمختلفة عن هويته التى قدم نفسه بها للفندق. لا أحد يلتزم هذا السلوك إلا أمريكى أو من نشأ وتربى فى أمريكا.
***
أتذكر القصة فى كل مرة شاهدت فيها شخصا يمارس سلوكا غير مألوف بالنسبة لى. أتذكرها أيضا وأنا أراقب التغير فى نمط سلوك جماعة أو شعب. اكتشفت مثلا فى أمريكا والغرب عموما ويمتد إلينا، أن نسبة متصاعدة من البشر لم تعد تستخدم أصابعها وربما أياديها كعهدى بها. بدأ اهتمامى بالظاهرة وأنا أستمع إلى شكوى من أم صغيرة. تقول الأم إن طفلها وهو فى العاشرة من عمره تفتقد أصابعه القدرة على الاستخدام الكفء لأجهزة وأغراض أخرى تتطلب قوة فى الأصابع ومرونة مع الكفاءة فى اليد. تأكدت الأم من المدرسة أن الأمر لا يتعلق بابنها فقط بل صار ظاهرة تشغل بال عديد المربيات والأمهات. تعتقد الأم أن سنوات من التعامل مع لعبهم الذكية باللمس فقط تسببت فى هذا الضعف الذى أصاب الأصابع والأيدى عموما.
تشاورت خلال رحلتى إلى أمريكا مع أطباء ومتخصصين. قال أحدهم إنه يخشى أن تؤدى التكنولوجيا الحديثة إلى أن يأتى جيل ضعيف اليدين، بل إنه لاحظ فعلا أن شبان هذه الأيام يتعاملون بصعوبة مع أجهزة تتطلب ضغطا قويا من الأصابع، ويجدون صعوبة فى حمل اثقال بعضها ليس أشد ثقلا من شنطة المدرسة التى كنا نحملها ونحن فى أعمارهم. يتوقع هذا الطبيب مثل غيره أنه كلما ازداد استخدام اللمس فى التعامل مع «الزراير» الذكية كلما ازداد احتمال أن يفقد الإنسان قوة قبضته بل وربما تأثرت كفاءة ذراعه حتى الكتف.
* * *
لاحظت أيضا، خلال زياراتى المتعددة لدول عربية ومن مشاهداتى فى مصر أنه على الرغم من التقدم الهائل فى استخدام التكنولوجيا المتطورة والاقبال المتزايد على تغيير موديلات السيارات وأثاثات المنازل، مازالت نسبة كبيرة من شعوبنا، وبخاصة طبقاتنا الوسطى، تغطى مقاعد سياراتها وقطع مفروشاتها بأغطية بلاستيكية. ركبت سيارة فى دولة شرق أوسطية يقدر ثمنها برقم يعصى على فهم أو قبول الكثيرين، سيارة، حسب شرح صاحبها، تقوم بعمل العجائب. وبالفعل حظيت بمتعة مشاهدتها وهى تكشف عن بعض غرائبها وعجائبها، وأغلبها لا صلة له بواقع أنها سيارة وظيفتها التى خلقت من أجلها أن تجرى على الطريق، لا أكثر. لن اكشف عن ثمن السيارة ولن أحصى العجائب وأسردها فمساحة النشر لن تسعفنى. يومها قمت برحلة فى عالم الغرائب والعجائب التكنولوجية والثراء غير المقبول أخلاقيا أو علميا أو سياسيا، وأنا جالس على مقاعد وثيرة تنثنى وتحتضن وتتحرك فى استجابات سريعة لرغباتى. فاتنى أن أذكر أن هذه المقاعد الفاخرة والعجيبة كانت مغطاة برقائق من البلاستيك التى أعتدنا كشعوب شرق أوسطية أن نغطى بها مفروشاتنا وأجهزة التليفزيون وكل ما غلا ثمنه واستجد فى حياتنا.
* * *
زحفت العولمة طويلا قبل أن تكل وتتعب. وفى مرحلة زحفها أجبرتنا على أن نغير بعض عاداتنا وصمدت فى وجهها عادات أخرى. أذكر عن بيوتنا القديمة أننا كنا حريصين على أن تكون النوافذ مفتوحة. عشنا ونحن صغار فى أجواء مفتوحة. أجدنا فن صناعة «تيارات الهواء» بين شباك من ناحية وباب من ناحية أخرى، قد يفصل بينهما غرف وصالات ومساحات واسعة. كانت «الفراندات» أو البلكونات تستعد منذ «العصرية» لتستقبل العائلة، ابتداء من «سى السيد» وحتى أحدث رضيع انضم اليها، ضيوفا عليها حتى منتصف الليل، نستمتع بنسيم الربيع وليالى الصيف وتناول العشاء المشتمل على الجبنة البيضاء مع شرائح الشمام الاسماعيلى والبطيخ والفول الأخضر والخيار.
لم نكن وحيدين فى ممارسة هذه العادة. كان العراقيون والكويتيون فى زمن الحاجة والندرة يقيمون هذه الجلسات فوق الأسطح، وربما استطردوا فناموا حتى الفجر. هذه العادة لم ألاحظ ممارستها فى الهند وباكستان حيث ظروف الطقس غير مناسبة.
***
جاءت العولمة فحلت رغبة الانغلاق محل الانفتاح. أنزل عادة فى فنادق فى دبى ونيويورك وبيروت وباريس، يرتفع الواحد منها أربعين أو خمسين طابقا. يحدث أن أقضى فيه يومين أو ثلاثة لا تدخل رئتى خلالها نسمة هواء عليل. لا أقابل شباكا مفتوحا أو«فراندة» أجلس فيها. أبواب الفندق مغلقة لا تفتح إلا عند وصولك إليها ثم تغلق وراءك. لم أركب سيارة تاكسى بشباك مفتوح، بل ولا سيارة ابنى باستثناء الثوانى التى تقف فيها السيارة أمام ماكينة استخراج بطاقة انتظار السيارة عند الدخول وماكينة استقبال بطاقة الانتخاب عند الخروج. أعتقد أن هذا «الانغلاق» فى غرفة نومك وفندقك وسيارتك والمطعم الذى تتناول فيه الطعام لا شك يتسبب فى أمراض لا أجرؤ على التكهن بها ويتسبب فى إصابات بالقلق والتوتر. فاتحت أصدقاء وغرباء فى اعتقادى هذا وللأسف لم أجد الاهتمام المناسب. الناس صارت تحب الانغلاق، حتى على ذواتها.
أفهم أن أقضى اثنتى عشرة ساعة فى طائرة نوافدها وأبوابها محكمة الإغلاق. ولكنى لا أفهم أن أقضى بعدها ثلاث ساعات أخرى فى مطار جميع نوافذه ومداخله ومخارجه متقنة الإغلاق، استقل بعدها طائرة أخرى بالمواصفات ذاتها لأقضى بها خمس ساعات، انتهى بعدها فى مطار مزود باستحكامات تمنع مرور الهواء الطبيعى، ومن المطار إلى سيارة تاكسى أو سيارة خاصة بنوافد أيضا مغلقة، يلقى بى وامتعتى فى فندق محكم الإغلاق، وهكذا.
***
إنها العولمة، التى لم يسلم منها شعب. فقدنا بسببها ممارسة عادات عديدة وتخلينا عن سلوكيات واكتسبنا أخرى. تتراجع العولمة وتتركنا ضحايا حنين إلى سلوكيات لن تعود وأسرى سلوكيات لا تشبع ولن تبارح.