مكافأة النفاق والتراخى المؤسسى!
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 31 يوليه 2017 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
قرأت مدونة يتحدث صاحبها عن التملق فى مكان العمل. السؤال الذى تصدر المدونة كان غريبا وغير مألوف! هل تحب حيوانك الأليف حبا غير مشروط؟ الإجابة كانت معروفة فأنت لا تنتظر شيئا فى مقابل حبك لكلبك أو قطتك، لكنك متلهف لرؤية هذا الحيوان إن غبت عنه ربما أكثر من لهفتك للقاء معظم الناس فى محيط معارفك! يبرر صاحبنا ذلك بأن هذا الحيوان الأليف يتزلف إليك بغير شروط، يتودد إليك على الدوام، وربما يلعق حذاءك.. يفصلك بهذا عن واقعك، ويخلق حولك واقعا بديلا يقطر سلاما وحبا.. لذلك فأنت تحبه، وتتجاوز عن أخطائه، ولا تنتظر منه أن يفعل الكثير. الموظف المتملق الذى اعتاد نفاق رؤسائه فى العمل يحظى كذلك بمكافآت عدة لا يستحقها لعمله أو لنشاطه، لكنه ينالها جزاء لوفائه وطاعته، لا فرق إن كان مخلصا فى هذا الوفاء أو مصطنعا له لأنك فى كل الأحوال لن تكشف عن صدره، ولأنك تحب أن تصدق أنك أهل لتلك المحبة والإخلاص!.. هذه آفة منتشرة بين البشر ولكن بدرجات متفاوتة، فإن شاعت فى محيط عملك، فاعلم أن مؤسستك تعانى من أزمة خطيرة. نتيجة شيوع هذا المرض تكون مدمرة للمؤسسات، وأبسط عواقبها هو انتشار قيم البلادة، ومحدودية الكفاءة أو انعدامها على الإطلاق، وضياع أى حافز للتميز الجاد والتفانى فى العمل.
تعرف الأدبيات النفاق المؤسسى بأنه «قيام المؤسسة بما يتعارض مع الغرض من نشأتها» فالمؤسسات التى تكافئ التراخى بينما تعلن لوائحها عن تقدير وإثابة التميز هى أيضا منافقة، نتيجة ذلك هو تدمير المؤسسة لذاتها مع مرور الوقت، وكأنما سرطان يتفشى فى كل خلاياها ليسيطر عليها. النفاق كالسرطان الذى يصيب الأفراد والمؤسسات والمجتمعات. يقول البابا فرانسيس ــ بابا الفاتيكان ــ فى إحدى عظاته «إن المنافق لديه القدرة على قتل المجتمع.. المنافق قاتل».. ثم يشبه البابا ما يفعله المنافق وهو يعطيك من طرف اللسان حلاوة بالشيطان الذى يقول ما لا يفعل.
النفاق المؤسسى يجد أيضا تعريفا له أقرب إلى مفهوم ازدواج المعايير، وضياع قنوات الاتصال بين الإدارة والمرءوسين. المؤسسات التى تمنح لأعضاء إدارتها من الحقوق ما لا تمنحه لسائر موظفيها دون مبرر منطقى يتم توصيله إلى العاملين، تعانى هى الأخرى من النفاق، وتفقد مبادئ النزاهة التى تضعف الولاء المؤسسى بشكل حاد، وتزيد من فرص هروب الكفاءات وتسارع الاستقالات.
***
فى بلادنا تزيد خطورة النفاق المؤسسى حينما تعمد الإدارة العليا للمؤسسة إلى تغيير لوائح العمل باستمرار لتفصيلها على حالات بعينها، إما لتصفية حسابات، أو لمكافأة المنافقين الذين يصفهم المجتمع الأمريكى بـ«أصحاب الانوف الُبنية» brownــnosed people، فى إشارة أعف عن تفسيرها للقارئ الكريم. هنا تعمل الإدارة بشكل مباشر على مأسسة النفاق، وعدم ترك السلوك المشجع له كى يتحول إلى عرف مؤسسى، بل هناك حاجة إلى تقنين هذا السلوك بشكل عاجل، وجعله ملزما للكافة، وعدم إمهال أصحاب الضمائر على تغيير تلك القواعد لاحقا إلا بمشقة بالغة!
المنافق المتزلف الذى اعتلى بنفاقه أرفع المناصب، قد سرق جهد وعرق الكثيرين ممن يستحقون هذا المنصب دونه، وهو لا يكتفى أن يسرق كرسيه وحسب، بل يريد أن يتأبد فوقه، ثم إذا هو اطمأن إلى شيوع ظاهرة مكافأة النفاق يريد ــ ما استطاع ــ أن يمحو من ذاكرة المؤسسة والمجتمع كله هذا التنافر الحاد بين قدراته المحدودة وما يتطلبه المنصب المهم، فيحيط نفسه بشرذمة من الفاشلين المتملقين ويعبث بمعايير التصعيد فى السلم الوظيفى لتلائم محدودى الكفاءة، فتتحول المؤسسة إلى راعية للفشل ومزرعة للتردى والقيم السلبية.
الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2014ــ2018 التى وضعتها اللجنة الفرعية التنسيقية لمكافحة الفساد فى مصر، افتتحت وثيقتها بقوله تعالى فى سورة البقرة: وَمِنَ النَاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَاةِ الدُنْيَا وَيُشْهِدُ اللَهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَىٰ سَعَىٰ فِى الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَسْلَ وَاللَهُ لَا يُحِبُ الْفَسَادَ.
وقد تناولت الاستراتيجية أسباب الفساد فى مصر بالبحث والتحليل تمهيدا لوضع الأطر اللازمة للتعامل معها، ومن أبرز أسباب الفساد الإدارية كان ضعف المهارات الإدارية الذى يؤدى إلى «تفشى التسيب والإهمال واللامبالاة» وكذلك نظم التعيين والتقييم والترقية فى الوظيفة العامة وما يشوبها من محاباة ومحسوبية، فضلا عن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية لتفشى الفساد المؤسسى ومنها ما يتعلق بتقبل المجتمع لبعض أنواع الفساد، وهو ما لم يكن ليحدث إلا بمكافأة الفساد بمختلف صوره، ومنها ما يتصل مباشرة بتولية من لا يصلح مناصب مهمة ومؤثرة، وقد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا وُسِدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة».
***
الأسباب إذن يجب أن تؤدى إلى النتائج، ولو تعطلت الأسباب دون ذلك لفسدت الأرض. الطرق التى يسلكها الناس يجب أن تصل بسالكيها إلى مكان معلوم، نهاية طريق العمل مكافأة، ونهاية طريق العبث والكسل عقاب محتوم. تعلمنا فى الصغر تلك العبارات وكأنها نواميس كونية لا تتبدل: «إن تذاكر تنجح».. «من جد وجد».. إلى غير ذلك من قيم حرص الأولون على زراعتها فى أبنائهم، كتبوها على أغلفة الكشاكيل وفوق أعمدة المدارس.. ماذا لو تغيرت تلك القيم إلى: «إن تنافق تنجح» و«من تملق وصل»؟! ستفسد الأرض لا محالة، وتحل قيم النفاق التى تنطوى على كل مقومات التدمير الذاتى للأفراد والأمم. صحيح أن لكل قاعدة استثناء، لكن لا يصح أن تتحول الاستثناءات إلى قواعد غالبة، فترى الصحفى المنافق قد وقد صار رئيسا للتحرير وهو لا يملك موهبة ولا قلما، وترى الموظف المحدود وقد صار فى أعلى المراتب، فقط لأنه يعرف كيف يرضى رؤساءه وإن خالف فى سبيل ذلك كل قيمة نبيلة. النتيجة أن تتحول المناصب العليا فى الدول والمؤسسات إلى بؤر للفساد، ويراها أصحاب البصائر شبهة لا مكافأة فيها على الإطلاق، لأن السبيل إليها مفروش بالتنازلات.
***
من العبث إذن إن نبحث عن دواعى القصور المؤسسى، ونحن نضع ونشرع جميع أسباب التردى والفشل العام! من العبث أن ترجو من الله السداد والتوفيق، بينما تسلك طريقا يؤدى إلى الهلاك! ليس غريبا إذن أن تتبنى هيئة الرقابة الإدارية دورا غاية فى الأهمية لدى تطبيقها لاستراتيجية مكافحة الفساد آنفة الذكر، وهو مساعدة مؤسسات الدولة على اختيار الكفاءات فى المناصب القيادية، ووفقا لقانون الهيئة فهى معنية بتحرى أسباب قصور العمل والإنتاج فى الدولة كلها، ووفقا لهيكلها التنظيمى فقد نشأت بها إدارة مركزية لترشيح القيادات، عملت على وضع قواعد بيانات غاية فى الشمول لتمييز القيادات المحتملة، بناء على معايير شفافة وأوزان نسبية ترجح كفة كل من نبغ فى مجال عمله وحظى بسمعة طيبة.
محاربة الفساد لن تبدأ بشكل سليم إلا بإعادة تخطيط شبكة طرق القيم المؤسسية ــ إن جاز التعبير ــ لتؤدى الكفاءة والعمل إلى النجاح والتميز، ويؤدى الكسل والنفاق وانعدام النزاهة إلى عقاب مناسب يعتبر به أولو الألباب.
الكاتب الفرنسى الشهير «موليير» كتب عام 1664 مسرحية كوميدية بعنوان «تارتوف» Tartuffe جسد فيها شخصية رجل منافق يحمل اسم المسرحية. «تارتوف» يتظاهر بالورع والقيم الاخلاقية طوال الوقت، لكنه يمارس كل أنواع وحيل الفساد، مستغلا مختلف شخوص المسرحية للوصول إلى مآربه. كم «تارتوف» فى مصر اليوم لو عاصره «موليير» لتحولت ملهاته إلى مأساة؟!