«مانيفيستو» إردوغان حول غاز البحر الأسود
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 31 أغسطس 2020 - 9:05 م
بتوقيت القاهرة
على غير المألوف فى هكذا أحوال، ونيابة عن الشركات العالمية المعنية صاحبة الامتياز والصدقية، أبى الرئيس التركى إلا ممارسة هوايته المفضلة فى المخاتلة السياسية عبر احتكار سبق تبشير رعاياه بأن أعمال البحث المضنية والمزمنة التى كثف وتيرتها منذ العام 2007 بغرض التنقيب عن الموارد الهيدروكربونية فى أراضى بلاده ومياه ما يعرف بـ«الوطن الأزرق»، قد آتت أكلها بعدما نجحت سفينة «الفاتح» مؤخرا فى اكتشاف احتياطيات من الغاز بمنطقة «توناــ1» الواقعة بالبحر الأسود قبالة مدينة إيريجلى التركية على الحدود مع بلغاريا ورومانيا، تقدر بـ 26 تريليون قدم مكعب، يقول إردوغان إنها ستلبى احتياجات البلاد المتفاقمة من الغاز لنحو عشرين عاما، كما ستحولها إلى دولة مصدرة للطاقة بعدما كانت مستوردا رئيسا لها، لاسيما وأن المؤشرات الأولية لاكتشاف أكبر حقل غاز تركى ترجح احتمالات وجود حقول أخرى بذات المنطقة.
وتطلعا منه لتعظيم مغانمه السياسية التى يعول عليها فى تحسين موقفه الانتخابى المهترئ، لم يفوت إردوغان الفرصة للتفاخر بقدرات بلاده الذاتية واستقلاليتها الكاملة فى أعمال المسح الزلزالى عبر سفن تركية على شاكلة «الفاتح» و«ياووز» و«القانونى»، فى الوقت الذى عهد إلى مؤسسة البترول التركية الحكومية بمباشرة عمليات التطوير والإنتاج من حقل الغاز الواعد. وللوهلة الأولى، تمخضت البشارة الغازية الإردوغانية عن أصداء إيجابية آنية، تمظهرت فى ارتفاع الليرة أمام الدولار بنسبة0.9 %، وزيادة مؤشر بورصة اسطنبول القياسى وأسهم شركات الطاقة التركية بواقع 2 %.، فيما توقعت دوائر حكومية أن يؤدى تدفق الغاز إلى وقف نزيف الاحتياطى النقدى الذى يذهب زهاء 45 مليار دولار سنويا منه إلى واردات الطاقة، كما يطفئ غضب المواطنين بوقف الصعود الجنونى فى أسعار المحروقات والسلع الأساسية، وأن يقلص تكلفة إنتاج الصادرات التركية بما يعزز موقفها التنافسى فى الأسواق العالمية. وبدوره، أعرب بيرات البيرق وزير المالية وصهر الرئيس عن أمله فى أن يفضى تقليص فاتورة واردات الطاقة إلى التخفيف من غلواء العجز المزمن فى ميزان المعاملات الجارية، والذى هوى بالليرة إلى مستويات قياسية من التدنى مقابل الدولار.
وبينما كان يغط فى أحلام البدء بإنتاج الغاز وتوزيعه على المواطنين بل وتصديره للخارج بحلول عام 2023، الذى سيشهد الاحتفال بمئوية الجمهورية التركية الأولى وإعلان جمهوريته الثانية، عقب إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية بالتزامن، استفاق إردوغان على وقع عاصفة عاتية من تفنيد الخبراء الأتراك والأجانب لمزاعمه، والتشكيك الشعبى فى وعوده. فعلى مستوى الخبراء، وبافتراض توفر الجدوى الاقتصادية للاحتياطيات التركية المكتشفة بالبحر الأسود، أجمع أهل الاختصاص على أن البدء بإنتاج الغاز لن يتأتى قبل سبع أو عشر سنوات، وليس ثلاث حسبما زعم مسئولون أتراك، كما سيستوجب مساعدة حتمية من شركات الطاقة العالمية. وعلى عكس ادعاءاتهم بأن التكلفة الإجمالية لن تتعدى ثلاثة مليارات دولار، يؤكد اختصاصيون أن تطوير 26 تريليون قدم مكعبة من الغاز طيلة عشرين عامًا متصلة، سيتكلف ما بين 20 و 30 مليار دولار، لتوفير بنية تحتية ضخمة لحقل يبعد نحو 100 ميل بحرى (185.2 كيلو متر) إلى الشمال الغربى من الساحل التركى ويقبع عند عمق 3500 متر من سطح البحر، مما يرفع كلفة الإنشاءات وأنشطة الاستخراج وبناء خط أنابيب لنقل الغاز من الحقل إلى الساحل عبر البحر. ووفقا لمذكرة من «كابيتال ايكونوميكس»، سيستغرق إنشاء البنى التحتية، بما فيها بناء معمل معالجة الغاز وشبكات الأنابيب، بضع سنين، بالنظر إلى عدد الآبار، وعمق تمركز الخام، وطبيعة تكوينه، ونسبة الشوائب فيه. وعقب حفر البئر الأولى، سيتسنى لتركيا إنتاج 16 مليار متر مكعب سنوى، تغطى نسبة 25 % من احتياجاتها السنوية من الغاز، التى ارتفعت وارداتها منه مؤخرا بنسبة 23 % إضافية، وفقًا لبيانات هيئة تنظيم سوق الطاقة التركية.
وخلافا لمزاعم الرئيس التركى بأن احتياطيات الحقل المكتشف ستلبى احتياجات بلاده من الغاز لعشرين عاما متواصلة، نشرت صحيفة «زمان» المعارضة تقريرا لمعنيين محايدين يشككون فى أهمية اكتشاف غاز البحر الأسود، وإمكانية معاونته أنقرة على التخلى عن استيراد 95 % من احتياجاتها الغازية والنفطية. حيث أكدوا أن ما يمكن إنتاجه من ذلك الحقل يتراوح بين 13 و 15 مليار متر مكعب سنوى لن توفر سوى حوالى 30% فقط من إجمالى استهلاك تركيا من الغاز الطبيعى، والذى بلغ 55 مليار متر مكعب فى عام 2018، تكبدها 11 مليار يورو، وتستوردها من روسيا وإيران وأذربيجان عبر أنابيب، ومن الولايات المتحدة وقطر فى صورة غاز مسال، وفقا لهيئة تنظيم أسواق الطاقة التركية. ما يشى بأن احتياطى الغاز المعلن رسميا بالبحر الأسود قد يسهم فى تقليص واردات الطاقة التركية لنحو ست سنوات فقط، فيما يبقى الحديث عن ولوج تركيا عصر تصدير الغاز لأوروبا ضربا من الأوهام، خصوصا أن مخزون ذلك الاحتياطى لا يتعدى 320 مليار متر مكعب، فى حين يتخطى استهلاك دول الاتحاد الأوروبى من الغاز الطبيعى 350 مليار متر مكعب سنوى، ما يعنى أنه لن يلبى حاجة الأوروبيين المتعاظمة إلا لعام واحد فقط.
وفيما قدَر وزير الطاقة التركى القيمة الاقتصادية لاحتياطى الغاز المكتشف بالبحر الأسود بنحو 65 مليار دولار، قياسا على أسعار الغاز خلال السنوات الأخيرة، كما توقع أن يوفر احتياجات بلاده الغازية لنحو سبعة إلى ثمانية أعوام مقبلة بعد نقل أول دفعة منه إلى الشاطئ عام 2023، يميز خبراء بين دفعات الغاز الاستهلالية التى يمكن لبئر واحدة إنتاجها، وبين تطوير الحقل بالكامل، والذى سيستغرق ما لا يقل عن سبع سنوات. فخلال السنوات الثلاث الأولى، غالبا ما تكون تدفقات الغاز محدودة للغاية، استنادا إلى الفارق ما بين احتياطيات الغاز القابعة فى المكمن مقابل ما يتسنى استخراجه والانتفاع به فعليا. وبفرض أن ما يمكن استخراجه من الحقل التركى المكتشف سيصل إلى 320 مليار متر مكعب، فمن المستبعد أن يدرج هذا الحقل ضمن قائمة أكبر 30 حقل غاز فى العالم، والتى يأتى حقل «ظهر» المصرى فى الترتيب العشرين بينها، رغم تجاوز احتياطياته حوالى ثلاثة أضعاف تلك التى أعلن عنها إردوغان بحقل البحر الأسود. الأمر الذى دفع بخبراء إلى التشكيك فى الجدوى الاقتصادية لحقل الغاز التركى المكتشف، لجهة ارتفاع تكاليف إنتاجه، فى ظل تراجع أسعار الغاز عالميا متأثرة بزيادة الإنتاج الأمريكى من الغاز الصخرى وتدفق غاز شرق المتوسط، حتى أضحت أسواق الغاز العالمية تعانى تخمة فى المعروض، بالتزامن مع ركود الاستثمارات فى العديد من مواقع الاكتشاف والإنتاج الجديدة.
أما على الصعيد الشعبى، فمثلما كان متوقعا، لم يقابل اعلان إردوغان بالترحاب الجماهيرى الجارف، ليس لأنه لم يكن الأول من نوعه فحسب، ولكن لعدم ثقة بعض الجماهير فى صدقيته. فبعدما أبدت شكوكها فيه، اعتبرته أحزاب المعارضة تضليلا للشعب التركى، الذى ألف لجوء حكومة العدالة والتنمية إلى استراتيجية الترويج لسرديات زائفة لإنقاذ شعبيتها المتهاوية على مشارف كل سباق انتخابى، خصوصا أن مزاعم اكتشاف أضخم حقل غاز بالبحر الأسود لم تستند على بيان دولى موثق من قبل مؤسسة عالمية متخصصة معتمدة.
فقبل استفتاء سبتمبر 2010، هللت صحيفة «حرييت» لاكتشاف النفط بجبل جودى بمدينة شرناق، ومع اقتراب الانتخابات المحلية فى مارس 2014، تم التبشير بظهور غاز صخرى بديار بكر يلبى احتياجات البلاد لمدة 40 عامًا. وبحلول انتخابات يونيو 2015، أعلنت شركة «مرسى» للطاقة ومحطة (إن تى فى) التلفزيونية، اكتشاف 30 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعى بحقل بويراز، وعلى مشارف انتخابات يونيو 2018 الرئاسية، أعلنت محطة (سى إن إن ترك) وجود النفط بمدينتى ماردين وشرناق بمنطقة ساسون. وقبيل انتخابات مارس 2019 المحلية، أعلن وزير الطاقة العثور على 20 تريليون متر مكعب من احتياطيات الغاز فى تراقيا. وفى نوفمبر 2019، راجت أنباء حول وجود 286 مليار متر مكعب من احتياطيات الغاز بولاية تكيرداغ. وبمرور الوقت تأكد للجميع أن جميع الإعلانات والبيانات السابقة لم تكن سوى محض افتراءات بقصد الدعاية الانتخابية لنظام إردوغان ووقف نزيف جماهيريته.
ولقد عزز من شكوك الأتراك فى إماطة إردوغان اللثام عن اكتشافه الغازى المثير بالبحر الأسود هذه المرة، تزامنه اللافت والموحى مع تطورين سلبيين مهمين: أولهما سياسى، يتمثل فى تأكيد نتائج أحدث استطلاع للرأى أجرته شركة «أوبتمار» التركية للدراسات خلال الفترة من 10 إلى 12 أغسطس الجارى بمشاركة 2121 شخصا من 26 ولاية مختلفة، استمرار التراجع فى شعبية الرئيس التركى وحزبه، مقابل ارتفاع نسبة الرافضين لترشحه لولاية رئاسية جديدة إلى 45.1%، وثبات نسبة المؤيدين لذلك عند 40% فقط. أما ثانيهما، فاقتصادى يتجلى فى تخفيض وكالة «فيتش» الدولية، توقعاتها للتصنيف الائتمانى السيادى لتركيا إلى «سلبية»، ومنحها نظرة مستقبلية سلبية، وهو التصنيف الذى يقل بثلاث درجات عن المعدل المواتى لجذب الاستثمارات، ويعطى للدول المأزومة اقتصاديا. وقد ولجته تركيا إثر تآكل احتياطيها النقدى، الذى تراجَعَ من 81.2 مليار دولار نهاية السنة الماضية إلى 45.5 مليار دولار منتصف أغسطس الجارى، بعد استخدام الحكومة له فى سد العجز الضخم بالإنفاق العام، فضلا عن اهتزاز صدقية السياسات النقدية بما يفاقم مخاطر التمويل الخارجى. كما توقعت الوكالة انكماش الاقتصاد التركى هذا العام بنسبة 3.9%، إثر ارتفاع عجز الحساب الجارى الناجم عن الحوافز الائتمانية القوية، وضعف التمويل الخارجى مع ازدياد مخاطره، علاوة على تزايد معدلات التضخم، واستمرار تراجع الليرة، فى ظل التقلبات الاقتصادية والمخاطر السياسية والجيوسياسية المتنامية.
سدى إذن، راحت أو تكاد، جهود إردوغان لاستثمار مانيفيستو غاز البحر الأسود بغية ترميم شعبيته المتصدعة، ومعالجة عجز الطاقة المزمن، وتعزيز دور بلاده فى أمن الطاقة العالمى. ولعل هذا ما يفسر معاودة أنقرة تصعيد الموقف بشرق المتوسط عبر المضى قدما فى انتهاكاتها التى تتحدى الشرعية الدولية، وتستفز الشركاء الأطلسيين والمتوسطيين والأوروبيين، غير آبهة بتهديداتهم بمعاقبتها، حيث طفقت سفن التنقيب التركية تواصل عمليات المسح الزلزالى غير القانونى، بحراسة ومرافقة القوات الجوية والبحرية التركية، التى لا تتورع عن تعزيز تموضعها العسكرى فى الإقليم الذى لم يزده ثراؤه الهيدروكربونى إلا توترا واضطرابا.