عن الفقر والتنمية.. من هنا نبدأ..!
محمد عبدالشفيع عيسى
آخر تحديث:
الخميس 31 أكتوبر 2019 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
لنفتتحِ الحديثَ من حيث يتم الافتتاح حول مقاييس الفقر السائدة؛ إذ الفقر وفق ما هو شائع نوعان: «فقر الدخل» فى ضوء خط الفقر المرسوم لمن يقعون تحت حد أدنى معين للدخل السنوى للفرد، ثم «فقر القدرات» فى ضوء الندرة النسبية الشديدة للخدمات الاجتماعية الأساسية، ولا سيما التعليم والصحة. ويُشتق من هذا التعريف المزدوج للفقر، المعياران السائدان للقياس (فقر الدخل وفقر القدرات) اللذان يتم الاعتماد عليهما فى دراسات وتقارير «التنمية البشرية». وقد يضاف إلى هذين النوعين للفقر لدى بعض البحاثة: «الفقر طبقا للإحساس والشعور»، أى حسب التقدير الذاتى للفقراء أنفسهم. ويضاف أيضا لدى بعض آخر «فقر الشروط»، شروط البيئة، البيئة الطبيعية ــ الاجتماعية، وتشمل: حالة المرافق العامة والخدمات الاجتماعية وهياكل البنية الأساسية.
ولكن لماذا اهتموا هذا الاهتمام الشديد بالفقر، حتى صار «ملكا متوَّجا» أو هكذا يبدو..؟
الحق عندنا أن الحديث الراهن عن الفقر، قد يمثل فى التحليل النهائى أثرا من آثار هجمة ألوان بعينها من التفكير الاقتصادى الرأسمالى بالمعنى العريض، بتياراته المتجددة على كل حال، وذك فى محاولة، أو محاولات، لتعقب ومحاصرة التفكير الاشتراكى بوجه عام، وخاصة منذ السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم.
منظور الفقر ذاك يركز على مستوى الدخل، دخل الأفراد، أو قدراتهم الظاهرة. وإذْ يتحدثون عن إنتاج فقر الأفراد، فإن فى هذا تطبيقا لما يمكن أن يسمى (التحليل المالى لمشكلة الفقر)، وإذ يركزون على حالة فقراء الدخل أو فقراء الخدمات (القدرات) فإن هذا يتم دونما اهتمام واجب بالشروط الاجتماعية لإنتاج الفقر، أو إنتاج فقر المجتمع نفسه. وإنما ينبغى الانتقال من التحليل المالى و«ظاهر القدرات»، إلى مستويين آخرين فى البنية المجتمعية العميقة: مستوى التحليل الاقتصادى ويدخل هنا فقر الشروط بما فيها الشغل وشروط العمل، ومستوى التحليل الاجتماعى، حيث جذور الفقر، إنتاج فقر المجتمع.
***
ومن المنظور «المعقد» المتقدم، متعدد ومتداخل الأبعاد، تتحول نقطة التركيز فى أبحاث الفقر ناحية فقر المجتمع وليس مجرد فقر الأفراد فى حدود ذواتهم. ولا يعنى هذا إهمال فقر الأفراد؛ فإن فهم فقر المجتمع هو الذى يوفر المنظور الأفضل لفهم فقر الأفراد؛ وذلك ما يغفله «دعاة الفقر والتنمية البشرية».
من هنا يمكن أن يقاس فقر المجتمع اعتمادا على:
• الهيكل الاقتصادى ــ الاجتماعى، متمثلا فى التوزيع المختل للأنشطة والقطاعات المولدة للناتج المحلى الإجمالى فى البلدان الفقيرة (من حيث غلبة الأنشطة الزراعية والمنجمية والاستخراجية) وكذا هيكل توزيع الثروة والدخل الوطنى (من حيث احتكار أقلية من السكان للشكر الأعظم من الأصول المنتجة ومن الدخول).
• علاقة المجتمع بالمجتمعات الأخرى، من حيث التبعية والخضوع للخارج، بدلا من الاستقلالية وحفظ الهوية. وفى ضوء ذلك، يمكن القول إن النقيض المباشر لمجتمع الفقر هو مجتمع التنمية الحقة، القائمة على مواجهة الاختلال فى توزيع الأنشطة الاقتصادية بالتحول الهيكلى لصالح التصنيع والتكنولوجيا، ومواجهة التبعية بالنزعة الاستقلالية.
لكن لا يكفى أن تركز التنمية على التحول الهيكلى والاستقلالية.. فقد كانت التجربة السوفيتية تفعل ذلك ولم يتحقق أثر ملموس على مستوى معيشة المجتمع يتكافأ مع الجهد المبذول والتضحية الجسورة، ويعود ذلك إلى أسباب متعددة معقدة، من بينها اختيار نموذج تنموى قائم خلال المراحل الأولى من التنمية على إعطاء الأولوية للتحول الهيكلى «للاقتصاد فى الأجل الطويل» قبل رفع مستوى المعيشة فى الأجليْن القصير والمتوسط. وقد تَمثل ذلك فى أولوية التصنيع الثقيل عموما، وصناعة الآلات الإنتاجية خصوصا، بما فيها «آلات المصنع» و«أدوات وآليات الورش الحرفية» والجرارات الزراعية، مقابل التأخر النسبى لصناعات السلع الاستهلاكية الموجهة للجمهور العريض.
وقد مضت معظم تجارب «إحلال الواردات» كاستراتيجية صناعية فى البلاد النامية خلال الستينات من القرن المنصرم، فاقتفت، إلى حد معين، أثر النمط السوفيتى القديم فى التنمية (من حيث تكثيف رأس المال أكثر من العمل والعلم). ولكن لأنها لم تكن تملك مقومات التطور الصناعى والتكنولوجى من المستوى السوفييتى، فقد استوردت رأس المال العينى المكثف، مما زاد الطين بلة، كما يقال. هذا بالإضافة إلى التوجه بالجزء المتطور من الإنتاج الصناعى (السلع المعمرة) لشرائح من الطبقة الوسطى. ولم يحدث، من ثم، ارتفاع منهجى فى مستوى المعيشة للغالبية الاجتماعية الشاسعة. يستثنى من هذا الحكم، عدد من البلاد النامية– مثل مصر الستيناتــ التى انتهجت مدخل السعى إلى العدالة الاجتماعية مع إنماء الناتج، جنبا إلى جنب، والعمل على زيادة نصيب الاستهلاك فى توازن نسبى مع الادخار، بحيث لا يتم التضحية بالجيل الحالى لصالح أجيال لم تولد بعد، وفق ما ذكر «الميثاق الوطنى» للجمهورية العربية المتحدة» (مصر)، والصادر فى مايو 1962.
***
وفى المقابل، ركزت بلدان الشرق الآسيوى الموالية للغرب، فى مراحلها الأولى، على تجارب «تطوير الصادرات» الموجهة نحو الخارج، من خلال إقامة وتوسيع قطاع ذى طابع (جيْبى)، منعزل نسبيا، يكرس ازدواجية الاقتصاد، ويتم من خلاله تطوير وتحديث قطاع بعينه، مفتوح على العالم الخارجى، دون أن تستفيد منه، بنفس القدر، غالبية المجتمع خلال تلك المراحل الطوية الممتدة عقودا. ومن ثم كانت ثمار النمو من نصيب أقلية منتفعة فى المقام الأول، أو لم تصل بطريقة فعالة إلى الغالبية من أبناء المجتمع.
وفى المقابل، ظهرت فى غمار «الدعوة إلى نظام اقتصادى عالمى جديد« – فى السبعينيات والثمانينيات ــ دعوة مصاحبة للتركيز المباشر على إشباع الحاجات الأساسية للناس.. وظهرت، من جهة مُقابِلة، وربما منافِسة، دعوة فى أروقة «البنك الدولى» و«برنامج الأمم المتحدة الإنمائى»، للتركيز المباشر على مهاجمة الفقر ولتحقيق «التنمية البشرية».
وقد أغفل دعاة الاستراتيجيات الثلاثة البديلة (الحاجات الأساسية ــ مهاجمة الفقر ــ التنمية البشرية) ما ركز عليه دعاة التنمية بالتصنيع الثقيل وإحلال الواردات أى: التحول الهيكلى للاقتصاد والتوجه نحو الاستقلالية النسبية فى المجال الخارجى. ولكنهم، وإن لم يظهر البعض منهم تحيزا ضد «التوجه التبعى للخارج» بشكل صريح، فهم لم يتحيزوا للتوجه نحو الداخل قطعا، وإن كانوا، ولو ضمنيا، أكثر ميلا لتوجه معين نحو الخارج قد يأخذ شكل (التجارة بدلا من المعونة).
ونحن نرى أن من المهم السعى الجاد إلى تحقيق التحول الهيكلى والنزعة الاستقلالية، ولكن مع مراعاة العدل الاجتماعى بتوزيع كل من الثروة والدخل حسب الجهد الإنتاجى، بالمعنى الرحب الذى يضع فى اعتباره دور رأس المال الخاص فى المراحل الانتقالية، من خلال قيامه بالمشاركة فى الجهد الرامى إلى زيادة الناتج الاجتماعى.
ثم إن التحول الهيكلى والاستقلالية والعدل الاجتماعى، كل ذلك لا يضمن تلقائيا رفع مستوى معيشة الغالبية الاجتماعية، لذلك يجب أن نضع ضلعا رابعا للتنمية هو التحسين المتواصل لمستويات المعيشة للغالبية الاجتماعية، ونقصد بذلك معنى متشعبا يشمل كلا من:
• وسائل العيش (طرق ومستوى المأكل والمشرب والملبس). وربما كان يعبر بعض دعاة «الحاجات الأساسية» عن ذلك بطريقتهم الخاصة.
• وسائل التكسب، من خلال الاشتراك فى تملك الأصول، سواء من خلال الملكية التعاونية أم من خلال الملكية الخاصة، «المنضبطة»، فى إطار برمجة مخططة بطريقة ما للاقتصاد الوطنى ككل.
• التحسن البشرى، أى الترقى فى مضمار التكوين الجسدى والعقلى للبشر، بالتعليم والصحة، ورفع «نوعية الحياة» بمعيار «العمر المتوقع عند الميلاد.
• «الاستمتاع الحيوى» بالمعنى الشامل، أى قضاء «وقت الفراغ من العمل» بما فى ذلك الترفيه والتثقيف الذاتى.
.. فى ضوء ذلك، نجد أن سياسات التنمية لابد أن تزاوج بين مهمتين:
أ – التحول الهيكلى للاقتصاد القومى، مع توجيه الهيكل الإنتاجى ليخدم رفع مستوى المعيشة، بالتركيز على الأنشطة المحققة لوسائل العيش والتحسن البشرى والاستمتاع الحيوى.
ب ــ العدالة فى توزيع الناتج الاجتماعى (السلعى والخدمى) بما يتناسب مع المشاركة فى الجهد الإنتاجى، جنبا إلى جنب مع توجيه هيكل ملكية الأصول ــ ملكية الثروة ــ بما يحقق هذه العدالة فى قاعدتها الأساسية. وإن الشرط الضرورى لذلك، وإن يكن غير كافٍ وحده، هو الدور الإشرافى للدولة (ذات التوجه الديمقراطى الحقيقى) على عملية التنمية.
إن التحسين المتواصل لمستويات المعيشة الاجتماعية، مع التحول الهيكلى والعدالة الاجتماعية والنزعة الاستقلالية فى العلاقات الدولية هى إذن أضلاع مربع التنمية القادر حقا على اقتلاع الفقر من جذوره، أى «استئصال الفقر» باختصار، وليس مجرد «خفض الفقر» أو «الحد من الفقر» فيما يزعمون. وبذلك يمكن أن يتميز المدخل التنموى حقا، وبصورة جذرية، عن المداخل الرائجة للتنمية البشرية وخفض حدة الفقر، وفق ما يذهب إليه الدعاة المتنفذون لكليهما.
وإلى البقية من ذلك فى المقال القادم.