ما الذي سيتغير بعد دك غزة وإبادة أهلها؟
صحافة عربية
آخر تحديث:
الثلاثاء 31 أكتوبر 2023 - 6:00 م
بتوقيت القاهرة
نشرت جريدة المغرب التونسية مقالا للكاتبة آمال قرامى، توضح فيه أن تأثير مشاهد الإبادة الجماعية فى غزة من جثث وأشلاء وأنين الأطفال سيتجاوز التفكير فى القضايا الأمنية ليصل إلى حد تغيير أنماط التفكير والسلوك والوعى بالتاريخ، إذ ستكتب هذه المشاهد شكل المستقبل المقبل من علاقات دولية وضوابط المساءلة الأممية وإشكاليات الإنتاج المعرفى. كذلك، تدعو الكاتبة وسائل الإعلام إلى نقل ما يجرى فى غزة الآن كما هو مهما بلغت المشاهد من صعوبة لتوثيق الإبادة حتى لو خالف هذا أخلاقيات نشر الصورة وحقوق الطفل... نعرض من المقال ما يلى.
يثير المنشغلون بما يجرى فى غزة، مجموعة من المخاوف التى ستشكل فى نظرهم، التحديات المستقبلية والعقبات التى ستحول دون تحقق السلم فى العالم ليغدو مجرد «يوتوبيا» من ذلك اندلاع أعمال إرهابية فى الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأوروبية المنحازة لدولة الاحتلال: إسرائيل، ونشأة حركات احتجاجية أكثر راديكالية من قبل، وابتكار استراتيجيات لمواجهة اليمين المتطرف واللوبيات الصهيونية... ولكن هذا التوقع الموصول إلى هيمنة نمط من التفكير يعلى من شأن أمن «المركز» وما سيهدد استقراره السياسى النفسى... لا يعكس تغيير عدسة النظر إلى ما سيترتب عن حدث الإبادة من تحولات عميقة.
إن تأثير إبادة الفلسطينيين سيتجاوز، فى الواقع، هذه التوقعات المرتبطة بالمسائل الأمنية ليشمل أنماط التفكير والسلوك ووعينا بالتاريخ، ونظرتنا إلى الماضى والحاضر، ومنظومة القيم وفلسفة القوانين وأشكال التواصل وعقد التحالفات وبناء العلاقات وطرائق مساءلة الهيئات الأممية والمؤسسات الدولية والأنظمة، وواضعى السياسات وضوابط العمل الإعلامى وأدوات التحليل وإشكاليات الإنتاج المعرفى وغيرها.
ونقدر أن وعينا بما يجرى من حولنا وتأثرنا بالصور والمشاهد الدموية وصراخ الأطفال وطرائق جمع الأشلاء... سيفرض علينا إعادة النظر فى الإطار الذى سيحكم تفكيرنا فى عدة قضايا وتحديد تحقيب جديد: ينطلق من ما قبل التصميم الدولى على إبادة الفلسطينيين والسطو على أرضهم وسر وجودهم وشطب ذاكرتهم ليتصل بما بعد الإبادة. فبعد أن كان تركيز المؤرخين على الزعماء وصانعى السياسات وغيرهم من الفاعلين سيتحول لـ«الغزاويون» من عامة الناس إلى أبطال يخلدهم التاريخ ويسرد الناس قصصهم وأفعالهم وأقوالهم إذ لا مكان للسياسيين فى التاريخ بعد أن فشلوا وسقطت كل أقنعتهم فتعروا، وهم على «الأرائك ينعمون». وإزاء الحديث والكتابة نيابة عن الفلسطينيا/ات من موقع تحكمه الامتيازات التى تفرض «الصرامة العلمية» و«الموضوعية» و«ترك المسافة»... وتحويلهم إلى مواضيع لبحوثنا القادمة علينا أن نلتزم بالتواضع وأن نشعر بقليل من الحياء فلسنا أقدر على تحليل من كان شاهدا/ة على حدث الإبادة ومن عاش القهر، ومنع من الكلام.
ونذهب إلى أن كتابة تاريخ الإبادة الشاملة لن تعتمد على المعجم القديم وما فرضه الغرب من مصطلحات وتبنتها الهيئات الأممية والأكاديميات واستعادتها الخطابات السياسية وغيرها. فلا مجال للحديث اليوم عن الصمود والفاعلية والتمكين resilience، agency,empowerment ولا يمكن اجترار «Resistance» المقاومة بل هى مفردات من عاش التجربة التى ستفرض نفسها وقد بدأت بالفعل، فنحن نتداول منذ الأمس «معلش»، ونردد «أسرل» وisraeler ــ israeled أى احتل وغزا ودمر وأباد واغتصب واستولى على ممتلكات الفلسطينيين... وفرضت عبارة القهر المركب نفسها إذ أضيف إلى القهر الاستعمارى، والقهر الطبقى والقهر الاقتصادى والقهر المتولد عن العلاقات الاجتماعية قهر يمارس المتواطئون وأصحاب المصالح وفارضوا سياسات النسيان والتجاوز بدعوة ضرورة إحلال السلام.
وإزاء الدعاية الغربية المقولبة للعقول والمتلاعبة بالوعى والمشوشة للمعايير والخطابات والسياسات العربية الفاقدة للمعنى نحن بحاجة للتفكر فى استحداث لغة بديلة تكون أكثر تعبيرا عن واقعنا «الحى» و«الحار» وفى قطيعة مع السياسات اللغوية التى تؤبد التبعية والاتكالية ومع مرحلة سيادة «الأبيض» المستعلى بمعارفه الذى ينتج المفاهيم والمصطلحات والعبارات والشعارات بينما نكتفى بالنقل والمحاكاة والاستهلاك. كما أننا مضطرون إلى إعادة التفكير فى ضوابط الإعلام والنشر وشروط المهنية فإزاء محاولات شطب الذاكرة ومنع الأرشفة تبقى صور أشلاء الأطفال والنساء وأنين المرضى والجرحى والمجوعين وغيرهم ممن اعتبرتهم قوى التحالف «نفايات» لابد من التخلص منها هى الوسيلة الوحيدة لتوثيق الإبادة حتى وإن خالف «أخلاقيات» نشر الصورة وحقوق الطفل.
قد يجرنا هذا التحقيب إلى تثمين الماضى والتعلق به باعتباره يمثل المرجعية والتاريخ والذاكرة والحصن بدل استشراف المستقبل والبحث عن سبل الخروج من الأزمة وتأسيس تاريخ جديد. ولكن أنى لنا أن نفكر فى المستقبل وذاكرتنا البصرية المشحونة بصور الجثث وأشلاء الأطفال والدمار، وأنى لنا التقليل من شأن العواطف، والتغاضى عن دور المتخيل فى تشكيل مواقفنا، وأنى لنا فرض براديجمات «العقلانية» والموضوعية والحياد و...؟، والحال أنها أضحت موضع تساؤل... إن العقلانية بالمفهوم الذى حددته الحداثة الغربية، أضحت ترفا لا يقدر عليه إلا أصحاب الامتيازات.