الأيام من بيتوزيريس إلى طه حسين
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 31 أكتوبر 2023 - 5:55 م
بتوقيت القاهرة
تعرفت على الدكتورة مرفت عبدالناصر فى العام 2021 بعد أن قرأت كتابها «لماذا فقد حورس عينه؟ قراءة جديدة فى الفكر المصرى القديم» (دار البلسم) وفى لقائى الوحيد معها شعرت أنها مسكونة بعشق مصر، تنتمى لفئة نادرة من الناس لا تزال معنية بتنمية هذا العشق والانتقال به من مستوى المعرفة المجردة إلى مستوى الممارسة الحياتية على الأرض.
حدثتنى يومها وأنا أطل من شرفة بيتها فى حى الروضة على تاريخ مصر فى أبهى تجلياته عن مشروعها الذى يقوم على تبسيط معرفتها بالتاريخ المصرى القديم، فى جملة من المؤلفات كانت موجهة للطفل بغرض العمل على إتاحة هذا التراث فى قالب سهل يساهم فى «أنسنة» هذه المعرفة وربطها بالوجدان العام من دون تشدق بوطنية زائفة، ولفتنى جدا اهتمامها برصد ظاهرة التباعد النفسى بين المصريين وتاريخهم القديم، وأسباب وجود حالة الاغتراب تلك.
قالت لى إنها لاحظت بعد بحث عميق أن غالبية الثقافة المتاحة حول مصر القديمة تحمل الطابع الأكاديمى الجاف، وتحوى مادة تاريخية تبدو غريبة، أو صعبة على الإدراك، وبالتالى لا تسد الثغرة القائمة بقدر ما تعمق المسافة الزمنية والنفسية بين القارئ والمعلومة، كما لمست مشكلة أخرى تعمق من تلك الفجوة النفسية، وأولها أن تناول الحضارة المصرية القديمة فى واقعنا المعاصر من منظور عقائدى يقارب بين هذا التاريخ والديانات الإبراهيمية التى تأسست على مبدأ الرب الواحد، يحدث صداما بين الفكر التوحيدى السائد فى الديانات السماوية ومبدأ تعدد الأرباب فى مصر القديمة.
حصلت مرفت عبدالناصر قبل سنوات طويلة على زمالة الكلية الملكية للأطباء النفسيين فى جامعة لندن، وكانت أستاذة فى الطب النفسى هناك، لكنها تركت كل ذلك وعادت لتؤسس مؤسسة فى قرية تونة الجبل بالمنيا تعنى بإحياء تراث مصر القديم وأطلقت عليها (هيرموبوليس الجديدة) وهى تقع غير بعيد عن منطقة آثار تونة الجبل حول مقبرة (بيتوزيريس) كبير كهنة المعبود جحوتى رب العلم والحكمة وهى تعود للقرن الرابع ق.م، وترجع أهميتها فى أن مناظرها منفذة بأسلوب خاص جـمـع بيـن الفن المصرى والفن اليونانى حيـث تـم الخلط والمزج بين الموضوعات المصريـة وبيـن الموضوعات اليونانية قبل الانتقال بمصر إلى المرحلة الهلنستية فى تاريخها الطويل وكانت هى وما حولها ضمن مجموعة الحفائر التى اقترحها الدكتور سامى جبرة على طه حسين حين كان عميدا لكلية الآداب فى ثلاثينيات القرن الماضى.
ومن أجل إحياء ذكرى طه حسين بعد 50 عاما من وفاته دعت مرفت عبدالناصر نحو 15 كاتبا وباحثا الاسبوع الماضى لإحياء هذه الذكرى فى مؤتمر نظمته على نفقتها الخاصة تحت عنوان (الأيام من بيتوزيرس إلى طه حسين) وكان من بين من شاركوا فى الحضور والنقاش: عالم المصريات والجيولوجى البارز الدكتور فكرى حسن والتربوى كمال مغيث والمعمارى طارق والى والروائى الشاعر علاء خالد وزوجته المصورة الفوتوغرافية سلوى رشاد والاعلامية الروائية صفاء النجار والدكتور مصطفى جاد العميد السابق لمعهد الفنون الشعبية وخبير توثيق التراث والناقدة والاعلامية البحرينية بروين حبيب مؤلفة كتاب (أبصرت بعينيها) الذى يتأمل فى موقف طه حسين من المرأة وجاء أيضا الروائى حمدى البطران الذى كتب رواية حول عميد الأدب العربى طه حسين بعنوان (طه الذى رأى)، بالاضافة لمشاركة الزميلة أميرة النشوقاتى محررة التراث بالاهرام ويكلى والزميلة راندا أبو الدهب من جمعية نهضة المحروسة والخبير الاعلامى محمد سلطان، كما شاركت فرقة الورشة المسرحية بقيادة المخرج حسن الجريتلى بتقديم فقرات من الحكى مستلهمة من السيرة الهلالية قدمها على عبداللطيف والفنان بهاء كما قدمت الفرقة مجموعة من أغنيات العشرينيات أدتها مرفت الجسرى زوجة الشاعر سيد حجاب الذى حضر ومعه عمار الشريعى من خلال أغنيات مسلسل الايام التى قدمتها فرقة كورال جمعية الصعيد بالمنيا خلال افتتاح المؤتمر الذى اعتمد فى تنظيمه على جهد تطوعى خالص قادته مرفت عبدالناصر ومعها فريق من الشباب المخلصين من أمثال فيبى ومينا وعيسى وغيرهم من الشباب المؤمنين بالتجربة الخلاقة.
قضينا يومين فى (هيرموبوليس الجديدة) وأدهشنا جميعا تفرد المكان وبهاءه الاستثنائى، فهو لا ينتمى لفئة المنتجعات السياحية المعروفة، بل أقرب إلى فضاء للتأمل فى مكونات الحضارة المصرية وأشكال استمراريتها فى تراث الحياة اليومية هناك، قام بتصميمه المعمارى الدكتور طارق والى المعروف باهتمامه بإحياء الفكر المعمارى لحسن فتحى والبناء عليه وتطويره وقد خرج المكان بهيا يفيض بجمال باذخ زاد من حضوره، كونه خرج خاليا تماما من أشكال البهرجة والاستعراض أميل إلى أنشودة أخرى للبساطة لو استعملنا تعبير يحيى حقى وفى ختام المؤتمر توجه المشاركون لزيارة استراحة طه حسين التى توجد فى قلب المنطقة الاثرية هناك وهالنا ما وصلت إليه من تدهور وكان من الواجب على محافظة المنيا ترميمها وتطويرها قبل أن تحل ذكرى رحيله بحيث تصبح مكتبة أو بيتا للهدايا يضم معرضا لمؤلفات طه حسين وأرشيفا مصورا لكل ما يرتبط بدوره فى المكان وهو أرشيف متاح وتملكه هيئات كثيرة وأطلعنى عليه الصديق حسام أحمد مؤلف كتاب (النهضوى الأخير) الذى ضم وثائق حول مباحثات سامى جبرة وطه حسين حول حفريات تونة الجبل، وكيف بنى له جبرة هذه الاستراحة فى مكانها المتميز الذى استقبل فيما بعد الملك فاروق وآخرين أبرزهم عباس العقاد وفريق فيلم دعاء الكروان المأخوذ عن قصة للعميد، ومن المؤسف حقا ألا تهتم الجهات الرسمية فى محافظة المنيا بإحياء ذكرى طه حسين بما يليق باسمه، لكن العزاء الوحيد أن مصر لا تزال تضم الكثير ممن استوعبوا رسالة طه حسين وأول هؤلاء مرفت عبدالناصر التى فعلت ما فعلت تقديرا لإيمانها بأفكار العميد ورسالته فى محاربة الظلام.