تبدو الحملة الانتخابية كهروب كبير من القضية المركزية لمستقبل إسرائيل، وهى الأبرتهايد الآخذ فى التكون بين اليهود والفلسطينيين. إن الصمت الحالى يفاقم المشكلة فقط. ردُ المعسكر الديمقراطى يجب أن يكون بلورة جبهة واسعة ضد نية «كتلة الأبرتهايد» (اليمين) إقامة نظام كولونيالى بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
الانتخابات القريبة أسقطت بضعة شهداء فى الساحة السياسية، هم فى الأساس من مؤيدى عملية السلام وعلى رأسهم تسيبى ليفنى. حتى الأقلية العربية تُظهر ميلا نحو تأييد مرشحين «براجماتيين»، لا يربطون وضعهم البائس فى الدولة بالمسألة الفلسطينية. يبدو أن حملة التشهير ضد المعارضين للاحتلال والنزعة الكولونيالية قد أعطت ثمارها. أربع سنوات من الإهانات والتهجم والتحريض دفعت كثيرين إلى البحث عن شعارات أُخرى كالمساواة الاجتماعية، والدفاع عن البيئة وحقوق النساء وغيرها. هكذا نشأ «عمى جغرافى» غير موجود فى أى معركة انتخابية أُخرى فى العالم. من جهة، تجد ملايين الفلسطينيين يخضعون لسلطة إسرائيلية (مباشرة أو غير مباشرة، لكن يومية) غير محسوبين، وليس لديهم صوت فى اختيار الحكومة التى تصوغ حياتهم. ومن جهة ثانية، مئات آلاف المستوطنين يسكنون فى المناطق التى يعيش فيها هؤلاء الفلسطينيون، يُدمجون «بصورة طبيعية» فى عداد الناخبين الإسرائيليين.
إسرائيل لا تواصل فقط استيطان المناطق من خلال عملية كولونيالية شاملة، بل تواصل أيضا السيطرة على الفلسطينيين بيد من حديد، على الرغم من مظاهر حكم فلسطينى مستقل فى جيوب صغيرة. وقف الأموال التى تدين بها إسرائيل للسلطة فى رام الله، الدخول المتكرر للجيش الإسرائيلى إلى مناطق أ فى الضفة الغربية، والرقابة الإسرائيلية الدقيقة على توزيع أموال قطر فى قطاع غزة، أثبتت فى الأسابيع الأخيرة عمق سيطرة إسرائيل على الفلسطينيين.
يدل العمى الجغرافى ــ أى السياسة التى «ترى» يهودا لكنها لا ترى فلسطينيين ــ على مسار أعمق كثيرا، يمكن تسميته «أبرتهايد زاحف». تحت هذا النظام، الناشئ بعد 70 عاما من تهويد الدولة، و50 عاما من الاستيطان فى المناطق، نشأت تحت حكم إسرائيل وتأسست عدة أنواع من المواطنة.
اليهود هم أصحاب مواطنة كاملة فى كل مكان فى البلد، بينما ينقسم العرب والفلسطينيون إلى فئات أدنى: مواطنون (من الدرجة الثانية) فى إسرائيل، سكان القدس الشرقية، رعايا فى الضفة وفى غزة.. مئات المستوطنات ربطت بصورة مدنية المناطق بإسرائيل وحولت الاحتلال إلى أبرتهايد. هذا الوضع عززه قانون القومية وقانون شرعنة البؤر الاستيطانية غير القانونية اللذان يرسخان السيطرة الإسرائيلية القانونية بين نهر الأردن والبحر، وسياسة اقتصادية توجه معظم موارد البلد إلى اليهود.
هذا الواقع الذى يزداد وضوحا يتطلب إعادة صوغ خطوط النضال السياسى. لم يعد هناك وهم بأن الصراع هو صراع بين يمين ويسار، كما فى دولة عادية يوجد فيها معسكر محافظين، دينى، قومى، رأسمالى (اليمين) فى مواجهة معسكر ديمقراطى، علمانى، متعدد الثقافات وأكثر مساواة (اليسار). فى هذه الدول الصراع بين يمين ويسار له حدود جغرافية وسياسية ديموغرافية واضحة. لا يحاول أى معسكر خرق هذه الحدود إلى مناطق جديدة وفرض سلطته على سكان ليسوا مواطنين على الرغم من إرادتهم.
فى مقابل ذلك، فى إسرائيل يتطلع معسكر اليمين علنا إلى ضم مناطق إلى دولة دون أن تمنح هذه الدولة المواطَنة للفلسطينيين. أى مواصلة السيطرة على شعب كامل من دون إعطائه حقوقا سياسية. انضمام حزب قوة يهودية إلى الأحزاب التى تدور فى فلك الليكود، وخطاب الغضب الذى ألقاه بنيامين نتنياهو بعد ظهور حزب أزرق أبيض، أزالا بقايا الأقنعة. الهدف هو محاربة حقوق الفلسطينيين فى العالم كله.
إذا أزلنا الغبار عن الخطاب التاريخى والدينى أو العسكرى، يظهر أن جميع أحزاب اليمين تعلن تأييدها ضم المستوطنات واستمرار قمع الفلسطينيين. وتنضم الأحزاب الحريدية عمليا إلى هذه العملية. لذلك يجب البدء بتسمية معسكر اليمين فى هذه الانتخابات «كتلة الأبرتهايد». وفوزه المحتمل فى الانتخابات سيرسم استمرار هذا المسار فى السنوات المقبلة: أنواع مواطَنة غير متساوية ستستمر وتتأسس تحت هذا الحكم الذى سيعمق نظام الأبرتهايد بين نهر الأردن والبحر.
يجب على أنصار الديمقراطية من اليمين ومن اليسار إنشاء جبهة ضد الأبرتهايد فى هذه الانتخابات. وعلى الرغم من الفروق الكبيرة بينهم فى مجالات أخرى، فإن هذا يشكل قاسما مشتركا يمكن أن يوحد قوى ومنظمات من اتجاهات متعددة ــ من حزب كلنا، وغيشر، وأزرق أبيض، وصولا إلى الأحزاب العربية. فلسطينيون ويهود، شرقيون وأشكناز، أغنياء وفقراء. جبهة ضد الأبرتهايد ترفع هذا الحوار إلى وسط المنصة، وتستطيع أيضا أن تجذب أصواتا من مؤيدى اليمين الذين لديهم أجندة ديمقراطية..
«الاحتلال» غير قانونى، وفى إمكان إسرائيل الاستمرار فيه سنوات طويلة. يتعين على أحزاب اليسار والوسط رفع شعار معارضة الأبرتهايد كمحور مركزى. هكذا يستطيعون كسر العلاقة بين الكتل، وتجنيد دعم دولى ضد النظام الناشىءوخلق حلف بين مؤيدى الديمقراطية والسلام من جهتى المتراس الوطنى. هناك عدة حلول محتملة للأبرتهايد، تشمل التقسيم إلى دولتين، دولة فدرالية، كونفدارلية أو دولة ديمقراطية واحدة بين الأردن والبحر. لا يمكن طرح أى حل من هذه الحلول كخيار واقعى من دون نضال صارم ضد نظام التمييز الناشئ فى دولة إسرائيل/فلسطين.
إن تغيير الخطاب هو عملية تستمر سنوات ولا يبدو أنها ستحدث فى هذه الحملة الانتخابية. لكن كل صوت يهتم بذلك سيساهم فى اختراق العمى الجغرافى والسياسى. يبدو أن الحرب على الأبرتهايد هى المعركة الكبرى فى السنوات المقبلة فى إسرائيل/فلسطين. وليس هناك وقت ملائم أكثر للبدء بها من الآن.
هآرتس
أستاذ الجغرافيا السياسية والتخطيط المدنى فى جامعة بن ــ جوروين
مؤسسة الدراسات الفلسطينية
أورن يفتحيل