من دفء المدرسة إلى برودة الشارع - خولة مطر - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 3:34 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من دفء المدرسة إلى برودة الشارع

نشر فى : الإثنين 7 سبتمبر 2015 - 5:45 ص | آخر تحديث : الإثنين 7 سبتمبر 2015 - 5:45 ص

لا تستطيع أن تقاوم الصورة حتى لو أحببت أو حاولت الابتعاد كما تفعل دوما.. كما نفعل جميعا عندما تطاردنا الصور وأشباح الأطفال. كلما قررت أن تبتعد عن الصور المتكررة لأطفال شاخوا سريعا أو بقايا أطفال تحت أنقاض بيوتهم وروائح الموت تغلف أجسادهم الطاهرة.. أو حتى صورة الطفل إيلان الذى استفز مشاعرهم حين لفظته أمواج البحر العربى عند الشاطئ التركى!!! وكأنهم لم يروا مئات الأطفال قبله الذين ابتلعهم المتوسط ولو أنهم تحركوا حينها لكان إيلان الآن فى حضن أمه بدلا من حضن التراب؟؟؟!!!

كلها صور لأطفال لم يعرفوا طعم الحياة دون كثير من الدم والموت.. أطفال قد لا يكتب لهم أن يعرفوا معنى أن تعيش فى بيت بغرف متعددة وحديقة صغيرة ومدرسة فى آخر الشارع ولعب الكرة فى آخر النهار بعد أداء الواجبات المدرسية.. أطفال فقدوا طعم المنزل والآن، وحسب التقارير، سيفقدون معنى المدرسة..

***

تصفعك معلومة أخرى عندما تخفف عن نفسك فتقول حين تناثر الأطفال على بقايا المدن وفى خواصر المنافى، بقى ملايين آخرون مع أهلهم أو حتى مع من تبقى من الأسر الممتدة.. تصدمك المعلومة بأن ١٣ مليونا منهم فى ٦ دول عربية تعيش الصراعات لن يلتحقوا بالتعليم. فقد دمرت، حسب تقرير اليونيسيف، أكثر مدارسهم. ووضع التقرير صورا لأطفال ومدرسيهم تعرضوا للقصف المباشر فى فصولهم أو ما تبقى منها أو حتى فى بقايا جدران أو خيم تحولت إلى مدارس. وآخرين، أى تلاميذ وطلاب يضطرون لعبور خطوط تماس ومناطق قصف عبر كثير من السلاح والدم ليصلوا إلى قاعات الامتحانات فليتقدموا لامتحانات وهم تحت القصف وكثير ما تصطادهم قذيفة أو صاروخ وهم هناك حتى يصبح الأهل فى حيرة هل يتمسكون بالتعليم فى زمن القتل على وقع الاستنكار والتنديد من قبل عالم اعتاد على موتهم ورؤية جثثهم تصف فى مقابر هنا وهناك حيث يغطى الطفل بحفنة من تراب وكثير من الدمع..

كشفت السنوات الأخيرة عن أن نظم التعليم فى دولنا قد ساهمت حتما فى كثير من التجهيل وضيق الأفق وانعكس خبراء التعليم، وهم ناقصو علم فى الكثير من الأحيان، ليقولوا إننا بحاجة لإعادة النظر فى مناهجنا التعليمية وطرق التدريس والتربية وتدريب وتأهيل المعلمين الأمر المعدوم حتما الآن. وقد تباكى الجميع على أيام كان التعليم هو أساس للتربية يدا بيد مع الاسرة وكان مفتاحا لعقول الصغار الطرية وليس وسيلة لغلق تلك العقول المتفتحة إلى الأبد!!!

والآن والانحدار مستمر نحو هاوية لا قاع لها، نعود لنتمسك بما هو موجود من أنظمة تعليم ومدارس متهالكة ونتمنى أن يعود الأطفال إلى أدراج مدارسهم وأقلام رصاصهم وليس رصاص البندقية.. ننظر إلى المستقبل بكثير من الخوف وسط ظلام الـ١٣ مليونا، الذين سيبقون خارج المدرسة أو خارج التاريخ، مما يعنى أن أجيالا قادمة لا مدرسة لها ولا كراسة سوى ثقافة الشارع الذى بقى هو الوحيد الصامد ليكون الفضل الدراسى، المعلم والمربى والواعظ والآمر والناهى... فكيف لنا أن نوقف حمامات الدم إذا لم يعد للأطفال سوى الشارع أو بعض ما يسمى المدارس الشرعية، وأن تكون لعبة الطفل هى البنادق والسكاكين؟!!!!!!

***

لن نستغرب حينها إذا ازدادت الأحقاد وتباعد البشر وأصبحنا فرقا مفتتحة لا يجمعها سوى الجهل والحقد وضيق الأفق حتى يصعب علينا أن نعود لتلك الأيام التى كنا فيها جيرانا فى الحى والمدرسة نتبادل الأحاديث والتهانى الوديعة حتى لو اختلفنا، ونتعايش ونتقبل الآخر مهما اختلف عنا.. فتصبح هذه الحياة الماضية مجرد حلم.. هل هذا قدرنا دوما كلما تصورنا أننا أصبحنا عند نهاية الانحدار وجدنا أننا لانزال نسقط ـ كثر وأكثر... كلما تصورنا أن للموت خواتمه وجدنا أن الموت يتلون ويقدم نماذج مختلفة وليس كلها واحدا..

عندما نعيد تكرار كيف كنا نعيش وكيف ملأنا الحقد الذى قال عنه واسينى الأعرج أنه «يمحو كل شىء بسرعة، يختزل تاريخ الحب ويعوضه لحقد مشتعل، المحارب الذى يعرف أنه سيموت يتمنى، بل يصلى لكى يسمعه الرب، أن ينتهى فى المعركة وأن لا ينتهى بين أيدى أعدائه، لأنه يعرف أن تمتص الأرض دمه، ليس كما يفعل البشر، التربع أرحم..» (واسينى الأعرج «سيرة المنتهى» ص ٧٠).

كيف سيكون الانحدار والحقد و١٣ مليون طفل أصبحوا خارج المدرسة وانتقل إلى الحياة لتعلمه ما تقدمه من القذائف والرصاص والسيارات المفخخة وتجار الحروب الذين يتاجرون بالسلاح والغذاء والماء والأهم بالبشر... أولئك الذين يستغلون الخوف الإنسانى الطبيعى من الموت فيحرقوا المكاسب الكثيرة منه..

***

تأتيك تلك الرسالة من هويدا التى كانت تعمل جهدها للخروج مع طفليها. بعد اشتداد المعارك وخوفها من البقاء.. قررت فى لحظة يأس أن تترك الأطفال عند «دار جدهم» ورحلت بعدها بأيام أخبرتنى أنها رحلت رغم نصائحه ونصائح أهلها بأن لا تفعل... قالت نحن عند الحدود بين هنا وهناك وصفت المعاملة اللاإنسانية وأرسلت صور المعسكرات وبقيت تعض على وجعها.. ونحن على عجزنا!!!! شىء ما يدفع الإنسان أمام هذه المشاهد للتوحش، إن لم نقف اليوم سنبقى أسرى تجار الحروب... كلهم وليسوا فقط الصغار منهم أصحاب القوارب المثقوبة التى يكدسوا فيها اللحم عند اللحم والجسد عند الجسد، بل وأيضا أولئك القائمون على التعليم الواقفون يتفاخرون يعلنون عن صفقات الأسلحة أمام ميزانيات متواضعة للتعليم... أولئك الذين يتفاخرون بالبناء والحجر والبشر على بعد خطوة منهم يصرخون ألما وخوفا وعوزا... أولئك الذين تستفزهم جثة الطفل إيلان كردى ذى الثلاث سنوات وكأن المتوسط لم يبتلع كما من أطفالنا قبله والذين لو عملوا شيئا حينها لكان إيلان الآن بين ذراعى والده ووالدته ولم يصبح مادة لهم.

 

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات